هناك حادثتين كان لهما أبلغ الاثر فى حياتى :
ظللت فترة طويلة من حياتى اعانى من بصمات سيئة تركتهما فى نفسى .
اولهما : عندما كنت فى مدرسة تابعة للكنيسة أنشأها قس متجهم كان يدرس لنا اللغة القبطية ، ومن منا لا يحفظ ينال أشد العقاب بعصا غليظة على أطراف أصابع يديه ، وكنا نرتعب فى وجوده حيث كانت ملامح وجهه تعبر عن القسوة والعقاب ، وكنا نحن الاطفال بعقليتنا البسيطة نتمنى ان تحدث له مصيبة حتى لا يأتى إلى المدرسة وننجو من عقابه .
وعندما وصلت بى الأيام إلى مرحلة الفكر والتأمل تعجبت كيف أن هذا القس يعظ فى الناس بالمحبة وهو لا يعرفها حتى مع الأطفال .
وثانيهما : عندما انتقلت إلى مدرسة ابتدائية فى السنة الاولى كان يدرس لنا اللغة العربية مدرس تربى فى مدارس الازهر وكان يحاسبنا على الكسرة والشدة والضمة ، كل منها له حساب خاص بالفلكة أو بالمد . إنها وسائل التخلف فى عقول من أُسند إليهم التعليم على اعتقاد أن الضرب وسيلة للتعليم .
إن أخطر مرحلة فى التعليم هى مرحلة الطفولة والتى تكتمل فيها نفسية الطفل ما بين البيت ومكان العبادة والمدرسة ، وقد تبرهن على أن الطفل يحب المادة إذا أحب المدرس ، والمدرس الناجح المثقف هو الذى يبنى علاقة طيبة بينه وبين التلميذ حتى خارج المدرسة ، وصدق من قال إذا غاب التلميذ عن المدرسة يُسأل عنه المدرس .
والمدرس الناضج نفسياً وفكرياً والذى عنده المام بعلم نفس الطفل هو الذى يعرف كيف تكون التربية والتعليم .
ويعرف كيف يتعامل مع كل تلميذ على حدا ، وبطرق مختلفة . فالطفل مثل العجينة يقع مسئولية تشكيلها بطريقة سوية على البيت والمدرسة ، فان لم يكونوا على مستوى من الثقافة والنضج خرج جيل معوج متطرف متعصب معقد ، وهذا ما نحن نعانى منه من قادة عميان متخلفين .
وحول نفس الموضوع كتبت احدى الكاتبات تقول :
قبل قرن كتب الطبيب والأديب الروسي «أنطوان تشيخوف» بدأ أبي بتعليمي، أو بعبارة أبسط بدأ يضربني قبل أن أبلغ الخامسة من عمري». «كان أول ما يخطر لي حين أستيقظ في الصباح هو: هل سأُضرب اليوم؟» إنه العنف الجسدي الذي لم يستطع تشيخوف أن يسامح والده عليه رغم أنه ربما قد وجد له ألف عذر وعذر، كما يبدو في كتاباته عمومًا. والمفارقة أن تشيخوف لكثرة اقتناعه أن ضرب أبيه أمر طبيعي ومن المسلّمات يفعله كل الآباء، اتهم أحد أصدقائه في المدرسة بالكذب عندما قال إنه لم يُضرب قط في البيت. إذا اعتبرنا اليوم ونحن في القرن الحادي والعشرين، أن الضرب كان أسلوب الأهل التربوي حتى فترة ليست ببعيدة، إلا أننا لا يمكن أن نجد له عذرًا راهنًا، كما لا يمكن أن نجد مبرّرًا للمثل الشعبي اللبناني الذي كان وللأسف لا يزال يقوله بعض الآباء للمعلم: «إلك اللحمات وإلنا العظمات». وكأن هذا التلميذ الصغير الذي لا حول و لا قوّة له، يحمل كل خطايا البشرية حتى قبل أن يخطو خطوة واحدة نحو العالم الحقيقي خارج المنزل، ويكتسب جزءًا من هذه الخطايا. الثابت في علمي النفس والاجتماع أن العنف يوّلّد العنف، والطفل المعنّف يعنّف زميله في الصف لأنه لا يعرف طريقة أخرى ليعبّر عما يخالجه، ويصبح مراهقًا مضطرب الشخصية غير واثق بنفسه يكذب ليحمي نفسه، فيكون راشدًا فاقد الرشد، يضرب زوجته وأبناءه لمجرّد أن يغضب، أو الأصح لأن لديه عنف مزمن. ورغم حملات التوعية واقتناع الكثير من الآباء المعاصرين أن العنف الجسدي ليس حلاً تربويًا لا نزال نسمع عن أطفال ومراهقين معنّفين. ومبرّر هذا العنف عبارة يكاد يكرّرها معظم الأهل المُعنِّفين: «أفقدني أعصابي، لم أستطع السيطرة على غضبي...». ولكن هل فكّر هذا الأب أو هذه الأم أن طفلهما، غالبًا، ليس المسؤول عن غضبهما، وأنه الوعاء الهش الذي يفرغان فيه كل كبتهما، ولا يمكن ترميمه إذا ما تحطّم، وإن رُمّم يكون مشوّهًا. وفي المقابل هناك عنف من نوع آخر أقسى وأشدّ وطأة وهو العنف المعنوي، حين يهين الأهل طفلهم بكلمات جارحة وقاسية وأحيانًا من باب المزاح، فكم مرّة نسمع عبارة: «غبي لا يمكن أن تنجح في حياتك، فاشل".، أحيانًا على مرأى ومسمع الآخرين، وأحيانًا أخرى في ما بينهما»، والمفارقة، ربما عن جهل يظن بعض، الأهل أن هذا النوع من العبارات يكون حافزًا للنجاح، ربّما قد ينجح في المدرسة، ولكن الأكيد أنه يفشل في المجتمع، لأن أقرب الناس إليه أفقدوه ثقته بنفسه، وأهانوا وجوده، فكيف يثق بالغرباء!. فكم مرّة نجد بعض الراشدين يتذكّرون أول ضربة حزام من أبيهم ويسخرون من الحادثة ويطلقون النكات عليها وكأنها، طرفة من نوادر جحا، بينما يُلاحظ أن من يتذكّر إهانة والديه يبدو عليه الحزن أو الغضب أحيانًا إلى درجة تبرق عيناه معها بالدمع. صحيح أن مهمة الأهل اليوم أصبحت أكثر صعوبة، وأنهم يفعلون كل ما في وسعهم لتأمين حياة كريمة لأبنائهم، ولكن عليهم أن يتذكّروا أن هناك خيطًا رفيعًا بين الحزم والقسوة، وبين السلطة والتسلط، والأبناء عمومًا والمعنّفون خصوصًا قد يسامحون ولكنهم لا ينسون. وهم كما يقول الأديب الفرنسي هونوريه دو بالزاك: «في حياة العائلة سوف تأتي اللحظة التي يصبح فيها الأبناء إما إراديًا أو لا إراديًا قضاة أهلهم». |
0 التعليقات:
إرسال تعليق