... الثقافة ليست كلمة ساذجة تنحصر كما فى تصورات البسطاء حول هؤلاء الذين يقرأون كثيرا ويتحدثون بعبارات أنيقة وغامضة فهذا تبسيط مخل ومشوه , فالثقافة هي مجموع العقائد والقيم والقواعد التي يقبلها ويمتثل لها أفراد المجتمع بغض النظر عن مدى تطور العلوم لديه أو مستوى حضارته و عمرانه . ذلك أن الثقافة هي قوة وسلطة موجهة لسلوك المجتمع ، تحدد لأفراده تصوراتهم عن أنفسهم والعالم من حولهم وترسم منهج تفكيرهم ورؤيتهم ومعالجاتهم وعلاقاتهم وفق لما ترسب فيهم من تأثير عقائد وتراث وقيم مجتمعية .. لذا عندما نقول ثقافة فهى ليست حالة خاصة بل ذات طبيعة جماعية لها نمو تراكمى تنتقل من جيل لجيل ومن هنا تتميز ثقافة شعب ما عن الشعوب الأخرى وفقا لحجم الميراث الذى شكل هويته الفكرية والسلوكية ومدى تأصل وتجذر هذه المعايير فى داخله .
عندما تتطور الشعوب فهى لا تتطور من خلال مدارسها العلمية فقط بل من خلال السياج الثقافى الحاضن والسامح للتطور وعندما تتخلف الشعوب فلا يكون من قلة الموارد بل من الثقافة التى سمحت لكل بؤر الجهل والتحجر والتشرنق بالتواجد فخلقت سياج حول العقل .
أوربا لم تتقدم إلا من ثورة التنوير ,, وثورة التنوير قدمت ثقافة جديدة ليست معنية بالعلوم , بمعنى أن الثقافة الناشئة فى أوربا جاءت لتزيح ثقافة قديمة بالية وتقدم بديلا عنها مفردات ثقافية فكرية جديدة شكلت حجر الزاوية والأعمدة التى سمحت وأسست بعد ذلك لكل مظاهر التقدم من علوم وتكنولوجيا ونظم سياسية وإجتماعية واقتصادية متقدمة .. التقدم والتخلف هو نتاج منتوج ثقافى فى الأساس .
التراث خلق ثقافة ومنهج تفكير وسلوك يتغلغل فى داخل الشخصية العربية ليجعل السلوكيات وأنماط الحياة القديمة فاعلة ومتواجدة لتسنسخ نماذج بشرية تعيش بأجسادها فى القرن الواحد والعشرين وعقولها ونمط تفكيرها تجتر من القرون الماضية .!
نتحدث عن الحريات والكرامة الإنسانية تحت تأثير شيوع فكر الحداثة الذى فرض نفسه على الجميع حتى ولو كانوا فى قلاع مشيدة ولكن هل نحن كشعوب وليس الحكام لدينا الإهتمام والحرص بالتشبث بالحرية والإعتناء بكرامتنا بعد قرون من التمرغ فى ثقافة التشويه والإجحاف والمهانة التى أتت أكولها لتبدد سريعاً أى قيم للحداثة لتبقى فقط على قشور من مظاهرها لنصبح جثث هامدة لا رجاء منها .
دعونا نتأمل مشاهد بسيطة من واقعنا نراقب فيه سلوكنا ومعالجتنا تجاه كل مشهد لنعلم أننا إفتقدنا القدرة على محاولة مواجهة ثقافتنا وتطويرها , فإما موقفنا مستسلم أو سلبى أو غير واعى أو يحاول أن يخلص الثقافة من ورطتها وفعلها , بل تزداد الأمور سوءا ودراماتيكية عندما تجد من يفتخر بالثقافة التى تجلب علينا كل هذه المهانة بل يصرخ ويلح على إستقدامها وللأسف هم الأكثر حضورا الآن فى واقعنا .
* مشهد إقتلوا الخوارج .
أفتى عضو لجنة الفتوى بالأزهر ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء الأزهر الشيخ "هاشم إسلام" فتوى أثارت الجدل حيث قام بالافتاء بإهدار دم كل من يشارك فى المظاهرة المزمع إقامتها يوم 24 أغسطس تحت مسمى "إغضب يا مصرى" .. ففى ندوة بالنادى الدبلوماسى المصرى وصف الشيخ المتظاهرين بالخوارج !!..وأستند صاحب الفتوى بحديث "من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا رقبة الآخر" - وأضاف فى حديث له بمقطع فيديو ان مصر قد شهدت انتخابات حرة نزيهه لأول مرة فى تاريخها و اختار الشعب المصري بإرادته ودون ضغط الدكتور محمد مرسي ليكون رئيسا لها وان أى شخص يخالف ما قام الشعب المصري هو مجرم فى نظر الاسلام !! , وأن جريمته ليست جريمه واحده ولكنه أجرم بجرمين هما " الحرابة الكبرى والخيانة العظمى للوطن ولله ورسوله وللمؤمنين لذلك وجب إهدار دمه دون رحمه !! قائلا : والفتوى يا شعب مصر أن تقاوموا هؤلاء فإن قاتلوكم فاقتلوهم، فإن قتل بعضكم فأنتم فى الجنة، وإن قاتلتموهم فلا دية لهم، ودمهم هدر".!!
* مشهد عنصرى .
أصدر الشيخ ياسر البرهامى المتحدث الرسمى بإسم التيار السلفى الحاصل على ربع مقاعد مجلسى الشعب والشورى فتوى تُحرم على سائقى التاكسى والميكروباص إصطحاب وركوب قس مسيحى إذا كان فى طريقه للكنيسة واصفاً هذا الأمر بأنه أكثر حرمانية من نقل سكير إلى خمارة .!!!
* مشهد النهى عن المنكر غصباً.
بمدينة السويس تم قتل الشاب "أحمد حسين عيد" على يد جماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى أول حادثة قوية تقوم بها هذه الجماعة .. فتحكى الواقعة عن قيام عضوين بجماعة النهى عن المنكر ومعهم منقبة بإيقاف الشاب السويسى هو وخطيبته فى حديقة البلدة وطلبوا التحقق من شخصيتهما , وعندما صرح الشاب ان الفتاة خطيبته وهذه دبلته الفضية التى تثبت ذلك , رفض اعضاء لجنة النهى عن المنكر الإعتداد بكلامه فهى إمرأة اجنبية بالنسبة له مما تبعه إعتداء على الشاب بضربه عدة جلدات من عصيانهم كما إعتدت المنقيه على الفتاة بالصفع مع وابل من الإهانات واللعنات , وعندما حاول الشاب "أحمد" الدفاع عن نفسه وخطيبته نال المزيد من الضرب لتصل إلى قتله بطعنه سكين منهم أدت لموته .!!
* مشهد الحسبه .
الشيخ يوسف البدرى له صولات وجولات فى مطاردة إيمان البشر وفرض التفريق حتى إشتهر بشيخ دعاوى الحسبة ، وكان أولها القضية المشهورة التى رفعها ضد الدكتور حامد نصر ابو زيد الأستاذ بكلية الآداب جامعة القاهرة عندما طرح رؤية مغايرة للنص فطالب بتطبيق حد الردة عليه وتطليق زوجته منه ، كما قام برفع دعوى ضد الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى وضد الدكتورة نوال السعدواى ، وجمال البنا ، والدكتورة سعاد صالح الأستاذة بكلية البنات جامعة الأزهر لكلامها عن الحجاب والختان وغير ذلك .. فالرجل لا يتوانى فى رفع دعاوى الحسبه بالمحاكم لكل من يراه يحمل فكر أو رؤية مخالفة لما يراه عن الإيمان الإسلامى القويم ليفوز فى عدة جولات بحكم قضائى بتفريق الرجال عن زوجاتهم وتهديد الجميع فى حياتهم .!!
* مشهد المكوجى والقميص والقبيلة .
فى قرية دهشور التى تحتفظ بأعظم مقتيات حضارة مصر القديمة نشبت معركة بين المسلمين والأقباط على أثر قيام مكوجى مسيحى بلسع قميص مواطن مسلم ليحدث تشاجر وتحتد الأمور فى القرية فكيف لهذا المكوجى ان يلسع قميص المسلم ويهينه لتقوم معركة هائلة مات على أثرها شاب صغير لتتأجج نيران الفتنة أكثر ويفد على القرية وافدين من كل صوب ويتم احراق كنيسة القرية ومنازل الأقباط وتهجير 120 عائلة لا ناقه لهم ولا جمل فى قضية لسع القميص..إنه فكر وثقافة القبيلة التى ترى انها الاقوى والأعلى لتفرض بداوتها .
* مصيبتنا فى ثقافتنا
لا يعنينى كثيرا تناول المشاهد والأحداث والتوقف أمام شخوصها فهو إعطاء قيمة لمن لا قيمة له , ولكن يعنينى بالفعل هو هذا الفكر الحاضر الذى أنتج الحدث .. تلك الثقافة القادرة على إنتاج المزيد من الأحداث ومن هنا يجب أن يكون نضالنا فلا نغرق أمام صخب المشهد وألوان الصورة الفجة , ونغفل وننصرف عن قدرة وتأثير ثقافة متخلفة على إنتاج المزيد من الأحداث .
- مشهد الشيخ هشام الذى أفتى بالتصدى للمتظاهرين فى المظاهرة المزمع خروجها يوم 24 أغسطس ليصل للتحريض على قتلهم وإعتبارهم من الخوارج واتهامهم بالحرابة والخيانة العظمى كونهم يعارضون سياسة الرئيس مرسى وحكومته مشهد لا يجب ان يمر بسهولة فهنا نحن أمام خلاف سياسى تم التعاطى معه وفق ثقافة منغلقة ليصل لفعل جنائى بالتحريض على قتل المتظاهرين مستخدماًَ عباءة الفتوى وتأثير مركزه الدينى فى إثارة الغوغاء - فماذا كان رد فعل المثقفين .. هاجوا وماجوا ليحاول الشيخ أن يلملم نفسه مع عدم تراجعه عن فتواه , ثم لا نجد فى كل المشهد دولة القانون والمدنية حاضرة لمحاسبة هذا الشيخ وإدانته على التحريض بل تم الإغفال وكأن شيئا لم يحدث من تحريض علنى على القتل ووعد القاتلين بالجنه فالإرادات مرتعشة أمام ثقافة اللحية .. نعم ثقافة اللحية التى إستعارت صور من المشهد الدينى عن الخوارج والحرابة وقول للرسول والنزعة الإستبدادية لترتجف النفوس والعقول .
لم يخرج أحد ليقول كفوا عن حشر الأحداث الدينية قديمها وحديثها فى عصرنا , كفوا عن فتاويكم ..فنحن لن نعترف بسياسات ومفاهيم قديمة تريد ان تتواجد فى حاضرنا ولن نقبل تدخل الدين فى السياسة والحجر على حرية أحد فى التظاهر السلمى وأن أى خروج عنه هو مسئولية دولة القانون والمؤسسات .. لذا ما صرح به الشيخ يعتبر جريمة ولابد من ان يُقدم للمحاكمة .
- مشهد شاب السويس الصريع على يد السلفيين أثار وجع وألم الكثيرين ليصبوا جام غضبهم على هؤلاء المتطرفين الذين يفرضون سطوتهم على البسطاء ولتخرج بعض الأصوات الطيبة لتعلن ان الإسلام برئ من هؤلاء المتزمتين .. بل تسمع قول بأن النهى عن المنكر هو من إختصاص الحاكم وليس لكل من هب ودب , فالإسلام يقر النهى عن المنكر وهناك بلاد تطبقه كالسعودية والسودان والصومال بواسطة مؤسسات تمنح ممثل الهيئة ضرب من يجده منكرا مثل حال الشاب السويسى .. أى ان هذا الرأى لا يجد غضاضة فى أن يتم الإعتداء على الحريات الخاصة والعامة شريطة ان تكون بيد الحاكم ومن ينوب عنه .!!
لم نسمع صوت واحد يقول : نحن ندرك ان النهى عن المنكر من الإسلام ونعلم أن هناك دول تطبقه ولن تكون قضيتنا أن يطبقه أولى الأمر او أى جماعة مؤمنه لكننا نرفض تطبيق النهى عن المنكر فى مصر ونرفض حضوره سواء تم على يد مؤسسات أو جماعات فهذا يتعارض مع حرية وحقوق وكرامة الإنسان بل نرى أن من يحاول أن يمارس التعدى على الحرية الشخصية للبشر علينا ان نحاكمه - لم يجرؤ أحد ان يقول هذا .. بل صرخنا وتباكينا وإرتضينا بالثقافة التى تنتهكنا .!!!
- مشهد اثارة الفتن والتعدى على الاقباط وحرق كنائسهم ومنازلهم ونهبها وتهجيرهم قسراً تكرر كثيرا عند اى مشكلة بسيطة حتى ولو كانت علاقة حب ليأخذ الحدث أكبر من حجمه ونجد مفهوم وسلوك القبيلة فى التعاطى حاضرا طالما أن طرفى الخصومة مسيحى ومسلم لتشتعل الحرائق والتخريب والتدمير والتهجير من عناصر ليست طرف فى القضية ونجد أن معالجة الحدث فى النهاية يتم خارج القانون بما يعرف بالجلسات العرفية التى يكون أطرافها من قاموا بالتخريب والتهجير ولا حضور لدولة القانون .. لتستغرب من هذا الإمتهان الذى ينتهى بجلسة عرفية ولا يصرخ احد عن غياب سلطة القانون , فلا تتعجب فنحن نعيش فى ظل ثقافة لها قانونها الخاص .
- مشهد فتوى الشيخ ياسر البرهامى التى تحرض أصحاب التاكسى والميكروباس على عدم إصطحاب الكهنه والقسس ونقلهم إلى أماكن عبادتهم لا يجب ان نفسره بأنه تشدد وتعصب من شيخ سلفى بل نحن أمام دعوة عنصرية بكل معنى الكلمة تثير الكراهية والنبذ والتسلط ليكون الوضع الطبيعى فى مواجهة هذه الفتوى أن يُحاكم صاحبها ويُدان على الفور , فهو هنا لم يفتى بكيفية الدخول للحمام وإنما روج لنهج وسياسة عنصرية وإثارة فتنة ونبذ لو وجدت حضورا لحظينا بكل النيران والتعصب والكراهية .
لن نقول ان مشاعر الشيخ البرهامى سوداء تجاه الكهنه ونكتفى ,فهى كذلك ,, ولكن هناك إلهامات شديدة الوضوح من التراث الثقافى له فتحت المجال أن يصدر فتواه فإذا كان نبى الإسلام أوصى ب" ضيقوا عليهم الطرق " فيكون ممارسة الإضطهاد ومنع توصيل الكهنه إلى كنائسهم أقل وطأة !!
فى مجتمع متحضر يفهم معنى حقوق وحرية وكرامة الإنسان سينزعج أشد الإنزعاج من هذه الفتوى وسيحاكم على أثرها الشيخ البرهامى على الفور ويُدان , ولن ينظر كون الفتوى لها جذور من التراث أم لا , فالتقييم سيكون وفق قانون منع التمايز والعنصرية وممارسة الإضطهاد , بينما فى مجتمع ثقافته تخاصم حقوق الإنسان ستمر هكذا مشاهد دون أن تثير أى عاصفة من الغضب أو الإستنكار فكرامة الإنسان مباح ذبحها بسكين بارد ولن تجد من ينزعج فقد تعود البشر على الإهانة والمهانة .!
- مشهد الشيخ البدرى وملاحقته للكتاب والمفكرين بإقامة دعاوى الحسبة عليهم وإدانتهم وتفريقهم عن زوجاتهم كونهم يحملون فكرا أو إجتهادا دينيا أو رؤية مخالفة لتصوراته لا يأتى من فراغ ولا شذوذ أو شطط الرجل ولكن من ثقافة تمنحه التدخل والهيمنة والوصاية على الآخرين وممارسة قهرهم وإمتهانهم , فالذى اتاح للشيخ البدرى أن ينطلق ويمارس الحسبه هى المادة الثانية من الدستور التى تنص على أن مبادئ الشريعة مصدر رئيسى للتشريع ليعتبر الكثيرين حتى المثقفين والمعتدلين ان هذه المادة خط احمر لا يجوز الإقتراب منها بالإلغاء اوالتعديل فهم يرون أنها أفضل حالا من أن تكون أحكام الشريعة المصدر الرئيسى فإذا كانت المبادئ تتحفنا بالحسبة فما بال الأحكام .!!
مثقفينا يستهجنون مسالك البدرى فى إقامة الحسبة وقد يصرخون فى وجهه بأنه ضد الإبداع والفكر والإجتهاد ولم يجرؤ أحد أن يواجه الثقافة التى تتيح للبدرى أو غيره ممارسة الحسبه ! - لم يصرخ احد أننا نرفض الحسبة حتى ولو كانت حجر زاوية فى الشريعة الإسلامية فهى ضد الحرية والفكر والكرامة الإنسانية ولم تعد مقبولة فى عصرنا .. للأسف لم يقولها أحد .!!
من مجمل هذه المشاهد نستطيع ان نتلمس جذور تخلفنا فى ثقافة لا تعتنى ولا تحترم بحرية الإنسان فكراً وسلوكاً .. ثقافة عشنا فى ظلالها نتجرع المهانة حتى وصل بنا الحال إلى عدم إدراك المهانة .. ثقافة تكلست وتشرنقت وتحصنت لتمنحنا الخوف والجبن والعجز فلا نستطيع إزاحتها أو تطويرها أو تخفيف وطأتها فلقد أصبحنا عبيد ثقافتنا التليدة .. لم تعد الأمور تكتفى بالإستسلام بل هناك من يرى إننا بعيدون عن ثقافتنا العتيدة وفى حاجة ماسة لحضورها وهيمنتها !.. هل أدركنا لماذا نحن متخلفون .
دمتم بخير .
- "من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته " حلم الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع .
( منقول عن الحوار المتمدن بقلم سامى لبيب )
0 التعليقات:
إرسال تعليق