هذا السّبت القادم علينا، بإذن الله، يُتوقّع، كالعادة، أن يفيض النّور المقدّس من القبر المقدّس في القدس (أورشليم). هناك، دائمًا، في الماضي، كما في الوقت الحاضر، من حاول ويحاول التنكّر، بإصرار، لحدوث ذلك. والحجج الموردة كانت، أبدًا، إيهامية، لها صورة الحق لكنّها ليست من الحق، ولها مظهر علمي وليست علمية، بالمعنى الصّارم للكلمة. فحتّى نفوّت على من يشاغبون، في هذا الشأن، فرصة تضليل من يمكن تضليلهم من المؤمنين، نورد بعض الملاحظات الّتي يمكن أن تقينا عثرة المعثرين.
النّور المقدّس لا يحرق في أوّل دقائق من انبثاقه |
أولاً: شهد التّاريخ محاولات عدة للطعن بصحة ٱنبثاق النّور المقدس من قبر مخلّصنا يسوع المسيح يوم سبت النّور من كلّ سنة. ولا غرو فإنّ الملحدين والهراطقة، وحتّى المنشقّين على مدى العصور، دأبوا على التشكيك بالإيمان المسيحيّ الأرثوذكسيّ ورموزه بكلّ الطرق الممكنة. لكنّ المُستغرب أنّ بعض الأرثوذكس يشارك هؤلاء في مسائل، كمثل الطعن بظهور النّور المقدّس في السّبت العظيم! إنّ موقف هؤلاء خطر وشديد الخطورة ويجعلهم تحت الدينونة لثلاثة أسباب:
1- هم أحرار أن يصدّقوا أو أن لا يصدّقوا ٱنسكاب النّور في ذلك اليوم المبارك. ٱنبثاق النّور المقدّس ليس بندًا إيمانيًا عقديًا. ولكن أن يطعنوا بالحدث أو يشكّكوا فيه جهرًا بالإعتماد على مقولات لاهوتيّة عامة، أو بإيراد مشابهات علميّة للحدث من دون التثبّت من تطابق تلك المقولات مع ما يجري فعليًا؛ ومن دون التثبّت، بالطرق العلميّة المعهودة، من سريان هذه المشابهات العلمية على الحدث، في ذاته، كحدث، أقول أن يطعنوا به أو يشكّكوا فيه على هذا النّحو، يجعلهم في موقع إعثار الآخرين، لا سيما الصّغار، ومن ثم تحت دينونة السّيّد لما قال: ”من أعثر أحد هؤلاء الصّغار المؤمنين بي فخير له أن يُعلَّق في عنقه حجر الرّحى ويُغرّق في لجّة البحر“ (مت 6:18)!
2- الحدث عمره أكثر من ألف سنة. وهناك العديد من الوثائق الّتي تشير إليه. فإذا لم يكن هناك ما يثبت فساد ما يقال أنّه كان يحدث خلال كلّ تلك السّنوات ولا زال إلى اليوم، فإنّ إمكان تدفّق النّور الإلهيّ في السّبت العظيم يبقى، أقلّه علميًا، في الوارد! فلو ٱفترضنا، جدلاً، أنّ هذا النّور هو، فعلاً، ذا مصدر إلهيّ، فإنّ من يصرّ على الطعن أو التشكيك العلني به، يجعل نفسه لا فقط مُعثِرًا للنّاس، ولكن، أيضًا، في وضع رفضٍ ودحضٍ وتحدّ لله بالذّات! وهذا يجعله، من ناحية، يخسر بركةً وتعزيةً شاءها الرّب الإله له ولغيره، كما يجعله تحت دينونة الكبرياء لأنّه يتمسّك بعناد بوجهة نظره في الشأن المطروح، دونما أدلّة ثابتة عليه، غير عابئ لا بما لله ولا بما للمؤمنين بالرّب يسوع!
3- إنّ من يشيع جوًا من التشكيك في صحة دفق النّور الإلهي في السّبت المقدّس لا تقف مسؤوليته عند حدود إبداء الرّأي، إذ يجعل نفسه في موقع من يتهمّ بطاركة أورشليم وأساقفتها، وبعضهم أُعلنت قداسته، بأنّهم كانوا، منذ نيِّف وألف سنة، ولا زالوا، يخدعون المؤمنين ويوهمونهم بأنّ أمرًا جليلاً، كٱنسكاب النّور الإلهي، قد حدث وهو لم يحدث! هذا ٱتّهام خطير وخطير جدًا؛ ولا يمكن لمن يتعاطاه، عن وعي أو عن غير وعي، لا أن يكون مستقيم الرّأي والعبادة، ولا أن يفلت من دينونة الله!
عدد كبير من النّاس يكون حاضرًا وتُضاء كلّ الشموع ولكن لم يصرّح عن اندلاع أي حريق |
ثانيًا: ثمة من يحاول أن يوهمنا أن برق النّور المقدس في كنيسة القيامة، هنا وهناك وهنالك، وهي متروكة في العتمة، بعد إطفاء كلّ القناديل فيها، أقول يحاول أن يوهمنا أنّ البرق مردّه أضواء (فلاشات) آلات التصوير. تبديدًا لهذه الحجّة الواهية، نورد شهادات العيان الثلاث التالية:
1- في العام 947 م، زار المؤرّخ ”نيقيطا الإكليريكي“ القدس (أورشليم) وعاين دفق النّور في السّبت العظيم. وقد كتب يقول: ”لم يكن رئيس الأساقفة قد خرج من القبر، بعدُ، حين ٱمتلأت كلّ كنيسة الله من النّور الإلهيّ الّذي لا يُقاوَم؛ وأخذ المؤمنون ينتقلون من الجهة اليُمنى إلى الجهة اليسرى... بإزاء هذا الظهور غير المتوقّع للنّور، ٱمتلأ كلّ الحاضرين عجبًا، حتّى إنّ غير المسيحيّين صُعقوا وخزوا...“1
2- في العام 1006/1007، زار الرّاهب دانيال الرّوسيّ القبر المقدّس، وشهد فيض النّور، وكتب يقول: ”فجأة شعّ نور مقدّس من القبر، وٱنبثق برّيق ساطع من القبر“.2
3- في العام 1582، كتب الرّحالة ”تريفن كوروبينيكوف“ الّذي زار القدس (أورشليم) وعاين ٱنسكاب النّور المقدّس في السّبت العظيم، تلك السّنة، أقول كتب يقول: ”النّار تأتي... كالبرق من السّماء“.3
السّؤال المطروح هنا هو: إذا كان بريق النّور المقدّس، اليوم، عائدًا إلى أضواء (فلاشات) آلات التصوير، فإلامَ مردّه في القرن العاشر والثاني عشر والسّادس عشر، ولمّا تكن هناك لا ”فلاشات“ ولا آلات تصوير؟ ألعلّ ثمة من يطعن، أيضًا، بشهادات الأقدمين، وقد أوردنا بعضها؟ عليه، إذًا، أن يُثبت أنّها مختلقة، وإلا أيّة قيمة لكلام طعنٍ أجوف، لا يستند إلا إلى رأي صاحبه؟!
القبر المقدّس |
ثالثاً: أيهما أفضل وأقرب إلى الحقيقة شهادة من يبدي الرّأي ولمّا يكن شاهد عيان، أم شهادة شاهد عيان معروف وموقّر؟
من شهود العيان المعاصرين ”المطران غابرييل“4، الّذي من بلاغوفيشينسك، في الشرق الأقصى من الرّوسيّا. في مقابلة معه سئل وأجاب بما يلي:
- هل شاهدتَ النّار الفصحيّة عندما نزلت من السّماء؟
- نعم رأيتها مرتّين. كان رئيس الأساقفة ”أنطوني زافغورودني“ ما زال حيًا. عندما خرج البطريرك يوم السّبت العظيم من القبر حاملاً النّور المقدس، لم نحاول الأب أنطوني وأنا أن نأخذ منه النّور ولكن أسرعنا إلى داخل قبر مخلّصنا يسوع المسيح، ودخل معنا شاب يوناني. رأينا على الحجر في قبر المخلّص شعلة لونها أزرق داكن، سماوي، أخذناها بين أيدينا وٱغتسلنا بها. لعدد من الثواني لم تحرقنا، ولكن بعد قليل صارت الشعلة ذات مقوّمات طبيعية فأضأنا شموعنا.
- هل كانت النّار تحترق مباشرة على الحجر المسطّح الّذي يغطّي قبر المخلّص؟.
- نعم، على هذا الحجر. كلّ القناديل كانت مضاءة، والحجر كلّه تُغطّيه النّار... يجب أن ترى هذا المشهد! لأنّي أنا لو لم أشاهده لكانت لدي بعض الشكوك. ولكن أشهد بنفسي أن النّار كانت متوهجة وأنّنا ٱغتسلنا بها. لم يكن هناك سوى صخرة ورخام والكلّ كانت تغطيه النّار. لا سخام، ولا شيء من ذلك على الإطلاق... نار مشتعلة، وهذا كلّ شيء.
رابعًا: حاول، مؤخّرًا، أحد الشّاكّين المشكِّكين، وٱسمه ”ميشال كالوبولس“، إيهام النّاس، عبر الشاشة، أنّ ٱنقداح النّور في فتيل الشموع مردّه الفوسفور السّائل. بثَّ عرْضًا غمّس فيه فتيل شمعة في الفوسفور السّائل. وبعد دقائق ٱشتعلت الفتيلة من ذاتها. الجانب العلمي الكيماوي من العرض الّذي قدّمة ”ميشال“ هذا يجيب عنه الكيماويّون. هذا ليس إختصاصنا. بالنّسبة لنا، لو سلّمنا بصحّة التجربة العلميّة هذه، أنّ للفوسفور السّائل خاصيّة إشعال الفتيل من ذاته، إذا ما غُمِّس فيه، فهل يعني ذلك أنّ الشموع الّتي تستضيء، في السّبت العظيم، في كنيسة القيامة، تستضيء بالفوسفور السّائل؟ هذا لا يحتاج فقط، لإثباته، إلى عرض، على الشاشة، لتبيان خاصيّة الفوسفور السّائل، بل إلى فحص كلّ فتائل شموع البطريرك والنّاس والقناديل، ما إذا كانت قد غمِّست، فعلاً، بالفوسفور السّائل أم لا؟ ثم لو سلّمنا أن كلّ الفتائل الّتي تنقدح من ذاتها، قد غمِّست، فعلاً، بسائل الفوسفور، أما كان يُفترض بها أن تشتعل في خلال دقائق من جعلها في هذا السّائل؟ كيف نفسّر أنّ الشّموع الّتي سبق لها أن أُعدت، من شهور أو من أسابيع، ولمّا تشتعل، فجأة تنقدح معًا، في وقت واحد، إثر صلاة البطريرك في القبر المقدّس؟ هل هذا معقول؟! ثم لو ٱعتبرنا أنّ البطريرك كان، فعلاً، مضلِّلاً للنّاس، فهذا يعني، في آن، أنّ الّذين تنقدح شموعهم من ذاتها، بين النّاس، ولا تشتعل فتائلها من شموع البطريرك، هم مشاركون البطريرك في خداعه ومؤامرته على الأرثوذكسية والإيمان والمؤمنين؟ هل هذا معقول؟! فقط هواة الأفلام الخيالية والمشوّشو العقول، أو الموتورون ضد الأرثوذكسيّة المباركة، أو المدّعون ومحبّو الظهور، أو المشبعون بروح الغريب يمكن أن يخطر مثل هذا الأمر في بالهم!!! ثم كل ما كان يحدث في القبر المقدّس على مدى أكثر من ألف سنة، أهكذا، بهذه السّهولة، نعيده إلى تراث السّائل الفوسفوري المخادع وٱنتقاله من جيل إلى جيل إلى اليوم؟! لا شك أنّ الجنون، في هذه الأيام الشّرّيرة، فنون؟!
رسم قديم لخروج البطريرك عند انبثاق النّور |
خامسًا: لا شك أنّ الّذين عملوا، عبر العصور، على الطعن بصدقية النّور المقدّس، يوم السّبت العظيم، كانوا كثرًا كثرًا؛ ورغم مقاصدهم المتباينة غير النقيّة، ٱتّفقوا على إطاحة النّور المقدّس، كما ٱتفق الرّومان واليهود على صلب مسيح الرّب! كلّ حملات التشكيك ولّدت تدابير كانت تُتّخذ لخنق عمل الله لسرور المؤمنين، لأنّ المشكِّكين كانوا يصرّون أنّ في الأمر خدعة! ولكن ما شاؤوه لضرب عمل الله ٱستبان حماية لهذا العمل وتأكيدًا له! حكمة الله الآخذ الحكماء بمكرهم فعلت وتفعل ذلك! على هذا نورد، في هذا المقام، التدابير المتّخذة قبل فيض النّور، إلى اليوم، تبديدًا لكلّ ظنّ أنّ في نزول النّور المقدّس خدعة!
فوق القبر يتدلى 43 قنديلاً: هذه القناديل تبقى مضاءة ليلاً ونهارًا: 13 منها للأرثوذكس، 13 منها للكاثوليك، و13 للأرمن، و4 للأقباط. بين السّاعتين 10 و11 صباح سبت النّور يجري تفتيش وتحقيق دقيقان للقبر المقدّس، إذ يدخله ممثلون عن سائر الطوئف المسيحية الأخرى: كاثوليك، أرمن وأقباط ومعهم أيضًا يدخل ممثلون عن الأرثوذكس. وجودهم له هدف واحد: التأكيد أنّ كلّ القناديل قد أُطفئت ولا وجود لأي غرض أو مادة بإمكانها إحداث نار، وأيضًا أنّه لا يوجد أي شخص مُخبأً في الدّاخل. يتمّ فحص القبر المقدّس ثلاث مرّات. بعد أن يتأكدّوا أنّ كلّ القناديل والشموع مطفأة وأنّه لا يوجد أي مادة يمكنها إحداث نار، يخرج هؤلاء الممثّلون من القبر. في هذه اللحظة، يُغطي الظلام كلّ كنيسة القيامة الكبيرة الواسعة. وقد فُرض هذا الترتيب الصّارم والدقيق وتمّ الالتزام به لقرون عديدة. عند السّاعة 11 بالضبط، صباح يوم السّبت، تجري عملية ختم مدخل القبر المقدّس. في ذلك الحين يُحضرون الشمع الّذي تمّت عليه خدمة 40 قدّاسًا. يذوِّبونه قليلاً لكي يتمكّنوا من إلصاقه بباب القبر كختم لهذا المدخل. ويضعون على باب القبر شريطين عريضين من اللون الأبيض يتقاطعان فيما بينهما بشكل صليب، مع إبقاء طرفي هذين الشريطين متدليَّين. توضع كمية كافية من الشمع على الجهات الأربع من الباب المزدوج، ثم توضع الكمية الكبيرة عند تقاطع الشريطين العريضين؛ وعلى هذه الكميّة يوضع ختم البطريرك وأختام أخرى. هذه الطريقة تعيد إلى الذهن محاولة رؤساء الكهنة والفرّيسيين ختم باب قبر المخلّص بالحرّاس. إذًا عند تمام السّاعة الحادية عشرة يكون مدخل قبر المخلّص قد خُتم. بعد ذلك يبدأ التطواف حول القبر المقدس. يقوم البطريرك مع جوق من المطارنة والكهنة والشمامسة والرّهبان بالسّير ثلاث مرات حول القبر وهم ينشدون أجمل التراتيل البيزنطية. وبعد الدورة الثالثة، يتوقّف البطريرك مقابل باب القبر. وفي ذلك الحين يتم تفتيشه بشكل دقيق ومفصّل بحضور الممثلين عن الطوائف المسيحية الأخرى وعدد من الرّسميين والشرطة. يجري هذا التفتيش للتأكد من عدم إمكانيّة وجود أي مادة مشتعلة بحوذة البطريرك. بعد التفتيش يدخل البطريرك القبر المقدّس لابسًا ”الاستخارة“ فقط (أي القميص الطويل الّذي يُلبَس تحت البدلة الكهنوتيّة) وعليها ”الأوموفوريون“. وعند تمام السّاعة الثانية عشرة ظهرًا، يُقصّ الشريطان ويُزال الختم عن مدخل القبر. عندها يدخل البطريرك مع ممثّل عن الطائفة الأرمنيّة. وظيفة هذا الممثّل مراقبة كلّ خطوة من خطوات البطريرك داخل القبر. لا يدخل هذا الممثّل إلى الحجرة الثّانية الدّاخلية للقبر، بل يقف في الخارج عند النّارثكس المجاور (أي القسم الأوّل للقبر) ويراقب تحرّكات البطريرك. ثم يجثو البطريرك على ركبتيه ويتلو الصّلوات، لاستنزال رحمة الله عليه وعلى الشعب المنتظِر خارجًا انبعاث النور المقدّس. وأثناء تلاوته هذه الصّلوات، فجأة يُسمَع أزيزٌ وتنبعث شُهُبٌ زرقاء وبيضاء من النّور المقدّس في كلّ مكان، لتُشعل كلّ آنية الزيت المطفأة. كذلك، وفي الوقت عينه، تشتعل الشموع من ذاتها، في القبر المقدّس ، الشموع الّتي يحملها البطريرك!!!5
كنيسة القبر المقدس | رسم قديم لكنيسة القبر المقدّس |
هذا بعض ما لدينا نمدّه للمؤمنين ليكونوا بسلام ويتعزّوا بما أسبغه الرّب الإله عليهم وعلينا، ولا يضطربوا لمحاولات الكذّاب حرمانهم من بركات الله. أما بشأن المُصِرّين على نثر الكلام المشكِّك فنرجو لهم الصّحوة؛ وإن ٱستمرّوا في عنادهم نقول عليهم قولة مرنّم المزمور الثلاثين: ”لتخرس الشفاه الماكرة المتقوّلة بالنّفاق على الصّديق عن غطرسة وتحقير“ (مز 18:30). فليقم الله ويتبدّد جميع أعدائه ويهرب مبغضوه من أمام وجهه!
0 التعليقات:
إرسال تعليق