هل نحن متحضرون فعلا ..؟! ….
كان هناك شاب يعمل مع فتاة في أحد المكاتب في القاهرة . اضطر الشاب الى السفر في مهمة عمل الى الاسكندرية فاتفق مع زميلته على أن تنتظره تحت المكتب حتى يأخذ منها أوراقا يحتاج اليها في مهمته .
وقفت الفتاة في الشارع تنتظر زميلها . فوجئت برجل لا تعرفه يقترب منها ويهمس :
…ــ أنت حلوة قوى
ثم بدأ يتحرش بها . مد يده يتحسس جسدها في وسط الشارع وفي عز النهار . استغاثت الفتاة وحاولت أن تدفع الرجل بعيدا لكنه استمر في التحرش بها . وصل زميل الفتاة وشاهد ما يحدث فهجم على المتحرش ليبعده عن زميلته .
كان المتحرش أقوى جسديا من الشاب فضربه ضربا مبرحا أدى الى كسر أحد ضلوعه وأحدث في وجهه اصابات بالغة ثم دفعه فسقط في نهر الشارع وكادت السيارات أن تدهسه .
اجتمع الناس وجاءت الشرطة . في وسط الانفلات الأمنى المتعمد الذى تعاني منه مصر بعد الثورة تصرف مأمور القسم بطريقة مسئولة فأمر بالقبض على المتحرش وأحاله الى النيابة التى قضت بحبسه أربعة أيام على ذمة التحقيق .
هذه الواقعة حقيقية لكن تفاصيلها تكسبها بعدا جديدا :
فالمتحرش مسلم و الفتاة ضحية التحرش مسلمة محجبة اسمها رحمة محمد وزميلها الشاب الذى دافع عنها باستماتة قبطي اسمه ميشيل جورج والضابط الذى نفذ القانون ضد المتحرش قبطي أيضا هو العميد هاني جرجس مأمور قسم قصر النيل والواقعة تحولت لقضية رقم 7788 لسنة 2012 جنح قصر النيل ..السؤال: .
مالذى يدفع شابا قبطيا للمخاطرة بحياته من أجل انقاذ فتاة مسلمة محجبة وما الذى يدفع الضابط القبطي لأن يقوم بالقبض على رجل مسلم اعتدى على فتاة مسلمة ..؟ الاجابة أن الشاب والضابط لم يفكرا في الفتاة باعتبارها مسلمة أو قبطية وانما فكرا أنها انسانة تتعرض للتحرش ومن واجبهما الدفاع عنها .هذه الواقعة تجسد لنا السلوك المتحضر : أن ندافع عن حقوق الآخرين لأنهم بشر وليس لأنهم يشتركون معنا في الديانة أوالجنس ..
هذا السلوك المتحضر كثيرا ما يقوم به مسلمون أيضا ..
ففي وسط الحوادث الطائفية أثناء الاعتداء على الكنائس وبيوت الأقباط عادة ما يظهر مسلمون متحضرون يحمون الأقباط من الاعتداء وهم عندئذ لاينظرون اليهم كأقباط وانما كبشر لهم حقوق انسانية من واجبهم أن يدافعوا عنها ..
هذه الوقائع المشرفة التى تظهر بين الحين والحين تطرح السؤال : هل نحن متحضرون فعلا ..؟
رأيي أننا متحضرون لكننا نعيش في دولة غير متحضرة . علينا هنا أن نفرق بين التمدن والتحضر .
التمدن مظهر والتحضر جوهر .. اذا حققت الدولة تقدما اقتصاديا ورفعت مستوى معيشة المواطنين وأنشأت جيشا قويا .. كل ذلك يجعلها دولة قوية متمدنة لكنها لن تكون دولة متحضرة الا اذا أعلت من قيمة الانسان ودافعت عن حقوقه بغض النظر عن دينه أو طبقته الاجتماعية . لايمكن للدولة أن تكون متحضرة الا اذا سادت المفاهيم الآتية : .
أولا الفهم الانساني للدين :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هل نعتبر أنفسنا بشرا أولا أم أننا مسلمون أو أقباط أولا ..؟! هل يأتي انتماؤنا للدين قبل انتمائنا للانسانية أم العكس..؟! .الاجابة ان فهمنا الصحيح للدين هو مايجعلنا أكثر انتماء للانسانية ..
اذا كنت متدينا بحق فسوف تدافع قطعا عن حقوق الآخرين مهما اختلفوا معك في الجنس أوالدين أو الأفكار. .. هذا المفهوم الصحيح للدين تراجع تماما في نظام مبارك . . على مدى ثلاثة عقود من الزمان ،
انتشرت القراءة الوهابية للاسلام المدعومة بأموال النفط ، ونجحت في أن تنشر في المجتمع المصري وعيا دينيا متشددا يحاسب الناس على معتقداتهم ويعتبر الأقباط فئة ضالة ويحاسبهم على ذلك ..منذ شهور كتبت في هذا المكان قصة تخيلت فيها أن شهداء الثورة المسلمين والأقباط صعدوا الى الجنة فوصلتنى ردود فعل مؤسفة من قراء كثيرين لاموني لأننى تخيلت أن الأقباط سيدخلون الجنة بينما هم يعتقدون أن الجنة ستقتصر فقط على المسلمين وغير ذلك لا يجوز حتى لو كان في قصة متخيلة .
ثانيا التأكيد على المسئولية الشخصية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدولة المتحضرة تعتبر الناس مسئولين عن تصرفاتهم كأفراد فقط وليس باعتبارهم أعضاء في جماعات أو طوائف . اذا حاسبنا الآخرين بطريقة جماعية فهذه أول خطوة نحو التعصب .. هل نعارض نحن العرب اسرائيل بسبب سياساتها أم بسبب ديانتها ..؟
اذا كنا نعارض سياسات اسرائيل العدوانية الظالمة فهذا موقف انساني عادل ومفهوم يشاركنا فيه ملايين الناس في كل أنحاء العالم أما اذا كنا نعارض اسرائيل لمجرد أنها دولة يهودية فنحن نمارس سلوكا طائفيا متعصبا .
لايحق لنا أن نعادى مجموعة من الناس على خلفية ديانتهم ..لا يجوز لنا أن نكره اليهود جميعا لمجرد أنهم يهود والا فنحن نعطي الحق للآخرين لكي يعاملونا بنفس التعصب فيكرهوننا لمجرد أننا مسلمون .. كما أنه من الظلم البين أن نعتبر أى شخص مسئول عن أفعال الآخرين لمجرد أنهم ينتمون لديانته. هناك قائمة طويلة بأسماء يهود غربيين اتخذوا مواقف معارضة لاسرائيل وأدانوا سياساتها العدوانية ..
الرئيس النمساوي الراحل اليهودي برونو كرايسكي والمفكر الأمريكي اليهودي ناعوم تشومسكي وغيرهم كثيرون بل ان هناك فتاة أمريكية يهودية اسمها راشيل كوري تركت الولايات المتحدة وذهبت الى فلسطين لتدافع عن حقوق الفلسطينيين وفي يوم 16 مارس عام 2003 كانت الجرافات الاسرائيلية تهدم بيوت الفلسطينيين في مدينة رفح فاعترضت راشيل كوري طريق الجرافة لتحمى بيوت الفلسطينيين فما كان من سائق الجرافة الا أن تقدم وسحقها فماتت تحت الجرافة . ..
هاهي فتاة يهودية تضحي بحياتها دفاعا عن فلسطينيين مسلمين .ليس من حقنا اذن أن نعادي أية مجموعة من الناس بسبب ديانتهم أو جنسهم بل يجب أن يكون الانسان مسئولا عن تصرفاته بشكل شخصي .
ثالثا : تأسيس الدولة المدنية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدولة المدنية لا يرتب فيها الدين أية حقوق سياسية للمواطنين فيكونون جميعا سواسية أمام القانون بغض النظر عن ديانتهم . في الدولة المدنية من حق المواطنين أن يعتنقوا ما شاءوا من أديان ومن حقهم أن يمارسوا شعائرهم بغير أن ينتقص ذلك من حقوقهم كمواطنين . للأسف فان حرية الاعتقاد في مصر تتراجع بسبب تخاذل الدولة عن حمايتها
في الشهر الماضى حوكم مواطن مصري وهو الآن محبوس لأنه شيعي وهكذا فقد أصبح الانتماء الى المذهب الشيعي تهمة يعاقب عليها القانون المصري بينما في عام 1939 تزوجت الأميرة فوزية أخت الملك فاروق من ولي العهد الايراني واحتفلت مصر كلها بالعرس الملكي ولم يفكر أحد في أن العريس شيعي والعروس سنية . ..
لازالت الدولة المصرية ترفض باستماتة الاعتراف بحقوق البهائيين مما يضطرهم للكذب في الأوراق الرسمية فيكتبون أنهم مسلمون مع أن ديانتهم بهائية .
المؤسف أن الدستور الذى تتم كتابته الآن قد قصر اعتراف الدولة على الأديان السماوية الثلاثة وهذا النص الدستوري مناف لحرية الاعتقاد لأن هناك مواطنين مصريين مثل البهائيين لاينتمون الى هذه الأديان الثلاثة ومن حقهم على الدولة اذا كانت متحضرة أن تعترف بحقوقهم الدينية كما أن معظم الأديان في العالم يعتبرها معتنقوها أديانا سماوية .
السؤال الآن : ماذا لوقررت الدول ذات الأغلبية البوذية أو الهندوسية أن تعاملنا بالمثل ، ماذا لو أن أحد المصريين المقيمين في الصين أو الهند ، مسلما كان أو قبطيا ،
ذهب لأداء الصلاة فألقت السلطات هناك القبض عليه وقالت انها لا تعترف بالاسلام والمسيحية كما رفضت الدولة المصرية الاعتراف بالبوذية أو الهندوسية . لايمكن أن تكون الدولة متحضرة قبل أن تبيح لمواطنيها حرية الاعتقاد بغير قيد أو شرط
رابعا : ثقافة التسامح وتجريم الكراهية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدين ليس وجهة نظر وانما هو اعتقاد حصري .من هنا فان أتباع أى دين يؤمنون دائما بأن دينهم الوحيد الصحيح بينما بقية الأديان مزيفة أو محرفة .
الاسلام يعترف بالمسيحية واليهودية لكنه يعتبر أن الديانتين قد أصابهما تحريف أخرجهما عن طريق الحق .
المسيحيون لايعترفون بنبوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام .
أما اليهود فلا يعترفون بالمسيحية ولا بالاسلام ويؤمنون أن المسيح الحقيقي لم يظهر بعد ..
هذا التضارب بين الأديان تسبب في حروب ومذابح بشعة على مر التاريخ الانساني حتى تعلمت الدول المتحضرة أن تحترم الأديان جميعا وتسن القوانين لتمنع أتباع أى دين من اهانة الأديان الأخرى . من حقك أن تمارس معتقداتك لكن ليس من حقك أن تهين أديان الآخرين . في القانون المصري تهمة اسمها ازدراء الأديان لكنها لم توجه قط الا الى الذين أهانوا معتقدات المسلمين . أما بعض المشايخ المتطرفين الذين يهينون الأقباط ويعلنون أنهم كفار لاتجوز تهنئتهم بأعيادهم فهؤلاء لا تعتبر الدولة أن اهاناتهم للمسيحية جريمة ازدراء للأديان . ..
ان الشعب المصري متحضر لكن الدولة غير متحضرة وهي تسمح بالتمييز واضطهاد المختلفين عن دين الاغلبية كما أنها لا تحترم آدمية المصريين سواء كانوا مسلمين أو أقباطا .
هكذا كانت دولة الاستبداد التى أقامها حسني مبارك على مدى ثلاثين عاما ثم قامت الثورة المصرية وجاء أول رئيس منتخب من الشعب وكنا نتوقع أن يشرع في انشاء الدولة العادلة المتحضرة التى تعلى من قيمة الانسان وكرامته بغض النظر عن دينه أو انتمائه السياسي . لكن الاشارات التى يرسلها الرئيس مرسي للأسف مقلقة ولا تبشر لخير…
الرئيس مرسي يوالي الافراج عن المعتقلين الاسلاميين الذين ينتمون مثله الى جماعات الاسلام السياسي وفي نفس الوقت لايريد أن يستعمل حقه في العفو عن معتقلى الثورة المدنيين الذين حوكموا عسكريا لأنهم ليسوا اسلاميين . .
هناك مواطنة مصرية اسمها نجلاء وفا يتم جلدها كل أسبوع في المملكة السعودية عقابا لها على اغضابها لاحدى الأميرات السعوديات وهناك المحامي أحمد الجيزاوي الذى يستغيث من التعذيب الذى يتعرض له في سجون السعودية وهناك عشرات المعتقلين المصريين الذين لم تكن السلطات السعودية لتجرؤ على المساس بهم لو كانوا أوروبيين أو أمريكيين .
لكن علاقة الرئيس مرسي مع الأسرة المالكة السعودية ، فيما يبدو ، أهم لديه من كرامة المصريين ،
تماما كما كان مبارك يحرص على صداقة ملوك الخليج ولا يعبأ اطلاقا بأحوال المصريين العاملين هناك . لن تكون الدولة المصرية متحضرة الا اذا اعتبرت أن أهم واجباتها الحفاظ على كرامة المصريين وحقوقهم .
الديمقراطية هي الحل
0 التعليقات:
إرسال تعليق