.
الموقع هدفه الارتقاء بالفكر الرافى الحر والتواصل مع الانسان المصرى فى كل مكان ، ومع ذلك فالموقع غير مسئول تماماً من الناحية الأدبية والقانونية عما يُكتب فيه سواء من المحررين أو من أى مصادر أخرى

الاثنين، أبريل 08، 2013

انطلاق الروح لقداسة البابا شنوده الثالث

     
كتاب انطلاق الروح لقداسة البابا شنودة الثالث
1- الانطلاق من معرفة الخطية
أن تحدثنا عن انطلاق الروح، فلعله يقف أمامنا هذا السؤال.
من أي شيء تنطلق الروح؟
ونجيب بأن الروح وهي علي الأرض، تجاهد لكي تنطلق من أشياء كثيرة، سوف يحدثك عنها هذا الكتاب..
غير أن هناك شيئًا آخر مهما حاولت الروح أن تنطلق منه علي الأرض، فلا أظن أنها تستطيع!.. ربما الانطلاق منه هو إحدى المتع التي ننالها في الأبدية.. فما هو هذا الشيئ؟ أنه:
الانطلاق من معرفة الخطية.
 عندما خلق الله الإنسان الأول، خلقه بسيطًا نقيا لا يعرف خطية علي الإطلاق، ولا تفاصيل الخطايا، ولا أسماءها.. كان كذلك، قبل أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر.. كان في براءة الأطفال، وربما أكثر...
 ولذلك حينما اغريت حواء من الحية، ما كانت تعرف..
كذبت عليها الحية وقالت "لن تموتا".. وقالت {تصيران كالله..} {تك5:3}. وحواء ما كانت تعرف أن هناك شيئًا اسمه الكذب. وما كانت تشك في صدق الحية، لأنها ما كانت تعرف الشك.
كان آدم وحواء لا يعرفان سوي الخير فقط. أما الشر، فما كان يعرفانه. ولكنهما لما أكلا من الشجرة دخلتهما معرفته.
دخلت إلي الإنسان معرفة جديدة، هي معرفة الخطية.
بل معارف أخري عديدة، عكرت صفو النقاوة الطبيعية الأولي، ينطبق عليها قول الحكيم:
الذي يزيد علما، يزيد حزنًا" {جا18:1}.
ولعل أول شيء عرفه آدم، أنه عرف أنه رجل وأن حواء امرأة، وبدأت معرفة الجنس تدخل إلي ذهنه، ثم إلي مشاعره وعرف أن هذا شيء يخجل منه، فبدأ يغطي نفسه. ثم عرف الخوف، فبدأ يختبئ وراء الأشجار. وبمرور الوقت بدأ الإنسان يعرف خطايا عديدة جدًا.
وأصبحت هذه المعرفة راسخة في ذهنه، تثير عليه حروبا روحية في بعض الأوقات. وإن لم يقع في هذه الخطايا، قد يقع في إدانة غيره عليها. وأصبح الإنسان يعيش في ثنائية الخير والشر، الحلال والحرام.
فمتي يتخلص من هذه الثنائية؟
ومتي يرجع عقله إلي نقاوته؟ ومتي تزول من ذهنه معرفة الشر. سواء أكانت وصلت إليه عن طريق العقل، أو عن طريق الخبرة، والممارسة؟ متي يتخلص من تذكار الشر الملبس الموت؟..
لا أظن ذلك يحدث علي الأرض إطلاقًا، إنما يحدث في الأبدية حسبما قال القديس بولس الرسول حينما كان "يسكب سكيبا ووقت انحلالة قد حضر" قال لتلميذه تيموثاوس.
{وأخيرًا قد وُضِعَ لي إكليل البر} {2تى8:4}.
أخيرًا سيتكلل الإنسان بالبر... البر الذي لا يعرف خطية، والبر الذي لا يعرف خطية.. يتكلل بالقداسة التي بدونها لا يعاين أحد الرب. ولكن متي؟ يجيب الرسول مكملًا حديثه عن أكليل البر " الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل. ليس لي فقط، بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضًا"..
إكليل البر هذا، هو الشهوة التي تنطلق إليها الروح..
أما علي الأرض، فإننا كل يوم نخطئ، وفي كل يوم نحتاج إلي توبة. ولا يوجد إنسان بلا خطية، ولو كانت حياته يومًا واحدًا علي الأرض...
متي ننطلق حقًا من معرفة الخطية؟ ولا نعرف إلا الله وحده وما يحيط به من نور، ليست فيه ظلمة البتة.. سيكون لك حينما نلفظ ثمرة معرفة الخير والشر التي أكلها أبوانا في ذلك الزمان.
وحينئذ نعود إلي رتبتنا الأولي..
بل أننا في الأبدية، سنكون في حالة أفضل من حالة آدم في الفردوس. فآدم وحواء كانا في حالة بر، مع إمكانية السقوط. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و الكتب الأخرى). أما في الأبدية فسوف نتكلل بالبر، البر الذي لا توجد فيه أية إمكانية للسقوط.
فأن كنا سنصير في حالة أفضل من حالة الإنسان الأول قبل السقوط، فعلي الأقل سنشابهه في البراءة والنقاوة والبساطة وعدم معرفة الخطية.
سننسى الخطية بكل صورها وكل تفاصيلها وكل ذكرياتها.
ولا تبقي في أذهاننا إلا إيجابية الحياة الروحية، في محبة الله، والتأمل في صفاته الجميلة، والتأمل في السماويات، وما لم تره عين، أو تسمع به أذن، أو يخطر علي قلب بشر.
بهذا تكون الروح قد وصلت إلي قمة انطلاقها.
أما هنا علي الأرض، فأقصى ما تصل إليه الروح هو الانطلاق من سيطرة الخطية والمادة والجسد، لكي تحيا طليقة (تُعتَق من عبودية الفساد، إلي حرية مجد أولاد الله) {رو21:8}.
هل شعرت أن روحك وصلت إلي هذه الحرية؟
هل الحرية هي انطلاق الروح. انطلاقها من كل قيد يعوق وصولها إلي الله.. وكيف ذلك؟ هنا وأتركك أمام هذه التأملات التي كتبت غالبيتها في بداية الخمسينات، قبل دخولي إلي الرهبنة...


2- الانطلاق لمعرفة الله
أعترف أمامك يا رب أن اتجاهي في الكتابة كان ينبغي أن يتغيَّر. وأعترف في خجل أمامك أنني كثيرا ما حدثت الناس عن الفضيلة، وقليلًا ما حدثتهم عنك، بينما ينبغي أن تكون أنت الكل في الكل....
غير أنني لكي أتحدث عنك، لابد أن أعرفك. وكيف أعرفك وأنا إنسان محدود؟! بل كيف أعرفك وأنت غير المُدْرَك، وغير المفحوص، أنت النور الذي لا يُدنى منه، ولا يستطيع إنسان أن يراه ويعيش...؟!

ولقد حاولت أن أسأل قديسيك الذين عرفوك، أو الذين عرفوا عنك {بعض المعرفة} فاقتربت إلي بولس الرسول الذي صعد إلي السماء الثالثة، وسألته عنك فقال أن الذي سمعه ورآه أمور {لا ينطق بها، ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم عنها} {2كو4:12}. وكذلك يوحنا الحبيب الذي رأى بابا مفتوحًا في السماء، وشاهد عرش الله، لم يشرح لنا رؤياه إلا في رموز لا يمكن أن تعطي الصورة الذاتية للحقيقة كما هي..
وأحيانا أسأل نفسي: أهي كبرياء منى أن أحاول أن أعرفك بينما ما أزال جاهلا بحقيقة نفسي، وما أزال جاهلا بكثير من الأمور البشرية والمادية؟ أن كنت لم أعرف كنه ذاتي، فكيف أعرف خالق هذه الذات؟
وأن كنت لم أعرف بعد سماءك وملائكتك، فكيف أعرف ذاتك الإلهية.
كل ما أعرف عنك، هو ما تكشفه لنا من ذاتك. وأنت لا تكشف لنا إلا ما تستطيع ذاتنا أن تحتمله. لأنك أن كشفت لنا أكثر، ستقف طبيعتنا البشرية مبهورة في دهش، وقد وقف عقلنا عن الفهم، وعجزت مفرداتها اللغوية عن التعبير، وتعترف أن ما تراه هو من الأمور التي لا ينطق بها.
وأنا أحاول في معرفتك أن أخرج عن نطاق الكتب بكل ما فيها من عمق، بل أن أخرج أحيانًا عن حدود معرفة العقل، لكي أعطى للروح في انطلاقها مجالها الواسع الذي تفوق فيه في قدراتها وفي مواهبها، وفي معرفتها.. كما أنها تقاسى كثيرًا من ضباب هذا الجسد المادي.
أترانا يا رب سنعرفك أذن في الملكوت الأبدي؟ وسننظرك حينذاك وجها لوجه كما قال عبدك بولس؟ أراني حقا حائرا أمام عبارة {وجهًا لوجه}.
أننا في الملكوت علي الرغم من القيامة الممجدة، وما سنلبس من أجساد نورانية روحانية، لابد أن سنظل – كما نحن – بشرًا محدودين...
ستكشف لنا شيئاَ عن ذاتك لم نكن نعرفه في العالم، فنسر بذلك ونفرح، ثم تكشف لنا أكثر فأكثر، على قدر ما نحتمل.
وقد تكشف لنا أكثر فتصرخ نفس كل واحد منا وهي مريضة حبا {كفانا كفانا}.. وتظل أنت توسع في قلوبنا، وتوسع في أرواحنا لنستوعب عنك المزيد.. وتظل أنت يا رب كما أنت... غير محدود،.. ونظل نحن – كما نحن – على الرغم من اتساعنا، محدودين، نعرف عنك بعض المعرفة..
ويطول بنا الزمن في الأبدية. ونحن نستمتع بمعرفتك، نذوق وننظر ما أطيب الرب، ونكشف كل حين شيئًا جديدًا عنك، فنتغذّى بهده المعرفة الحلوة المشبعة ولكننا لا يمكننا أن نلم بك كلك.
أذن متي نعرفك المعرفة الحقيقية ؟
يجيب ربنا يسوع ويقول "هذه هي الحياة الأبدية، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك..."... أذن فمعرفتك ليست موضوع سنين أو أيام، وإنما طريقها هو الأبدية كلها، الأبدية التي لا تنتهي..
أن كان الأمر هكذا في الأبدية، فماذا نقول أذن عن جهالتنا علي الأرض؟ أحقا نحن نعرف شيئًا؟
لذلك أتوسل إليك أيها الخالق العظيم، أن تعذرني أن كنت أحدث الناس عن الفضيلة أكثر مما أحدثهم عنك.
فذلك يرجع إلي سببين:
السبب الأول: هو أنني لا أعرف. كل ما أعرفه هو أنني أصلى إليك أن تكشف لي شيئًا عن ذاتك، وما تكشفه لي أخبر الناس به، لكي يجربوا مذاقة الملكوت علي الأرض.
والسبب الثاني: هو أنني عندما أحدثهم عن الفضيلة إنما أريدهم أن يعدوا قلوبهم لمعرفتك. أريدهم أن يرفعوا البخور عشية وباكر على هذا القلب حتى يستحق أن تقدم عليه السرائر الإلهية.
ونحن بذاتنا لا نعرف، لكننا نريد بنعمتك – أن نعد ذواتنا لمعرفتك، وهذه المعرفة تأتي منك أنت، بما تكشفه لنا، ولا تأتي بمجهود عقولنا، ولا حتى بمجهود أرواحنا. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و الكتب الأخرى). أن كل جهاد عقولنا وأرواحنا – مع ضرورته – أنما يدخل في حقيقته تحت معني الصلاة أو التوسل، لكي يملأ السحاب البيت، وتشتعل النار في العليقة، ويكشف الرب ذاته.. وحينئذ يسجد القلب في خشوع، ويرتل في شكر:

 {أعطيتني علم معرفتك}.
هذه المعرفة الإلهية هي اللؤلؤة الكثيرة الثمن، التي من أجلها باع التاجر كل أمواله واشتراها.
ولعله من الأموال التي باعها، ما نكنزه في عقولنا من معارف بشرية متعددة تشغل كل أوقاتنا حتى لا نتفرغ لمعرفتك أنت، وحتى لا نجلس مع مريم عند قدميك تسكب في قلوبنا ذلك الماء الحي، الذي
كل من يشربه لا يعود يعطش أيضًا...
ليتنا نسعي إلي هذه المعرفة، ونطلبها بكل قلوبنا، ونجدها في داخلنا، في عمق أعماقنا، حيث تسكن أنت، وحيث هيكلك المقدس الذي تدشن يوم المسحة المقدسة منك
.
3- التحرر من القيود
كانت الساعة السابعة مساء، والسكون يخيم علي أرجاء المكان، حين بدأت وأبي الراهب نضرب بأقدامنا في رمال الصحراء، نتمشى حينا ونقف حينا آخر، متأملين في موضوعات أسمى من أن يكتبها قلم بشري.. وقد طال بنا التجوال ونحن لا ندرى، أو نحن لا نود أن ندرى، حتى استقر بنا المطاف أخيرًا علي عتبة الدير، فجلسنا نناقش موضوع: انطلاق الروح..
التحرر من القيود
رواسب وقيود:
لست أعنى انطلاق الروح من الجسد، ذلك المعنى الذي قصده سمعان الشيخ حين قال "الآن يا رب أطلق عبدك بسلام حسب قولك". أنما أعنى انطلاق الروح وهى ما تزال في الجسد، انطلاقها من كل ما يحيطها من رباطات وقيود، حين يبدأ السلام الكامل ويعيش الإنسان في حرية أولاد الله.
أترى يا أخي العزيز الطفل بعد عماده وروحه حرة طليقة كما أوجدها الله فيه، ثم أتعرف ماذا حدث لها؟!

لقد أرسب عليها العالم والعرف والبيئة رواسب عدة، وتقيدت من جراء ذلك وغيره بقيود كثيرة تعوق انطلاقها إلي حيث تريد ان تذهب لتتحد بالله وتثبت فيه، وكل ما يبحث عنه أولاد الله هو انطلاق الروح من كل هذا: انطلاقها من قيود العالم والبيئة، وانطلاقها أيضًا من قيود الحس والحكمة البشرية.
وهنا التفت الأب الراهب وقال: هل يحسب البعض أن السيد المسيح عندما قال: {إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال لن تدخلوا ملكوت السموات} كان يقصد: أن لم تصغروا وتصيروا مثل الأطفال {كلا. بل كان يود أن يقول: {أن لم تكبروا في الروح جدًا حتى تصيروا مثل الأطفال فلن تدخلوا ملكوت السموات}؟
قيود الحس:
وقف أمام القديس مقاريوس الكبير راهب حاربه البر الذاتي حتى ظن أنه تخلص من الزنا وحب المال والغضب، فسأله الأب القديس عما يشعر به إذا رأى امرأة: فقال أعرف أنها امرأة ولكني أهرب لئلا أشتهيها. فسأله أيضًا عن شعوره إذا رأى مالا ملقى في الصحراء، أيستطيع أن يفرق بينه وبين الحصى؟!
فأجاب بأنه يستطيع ذلك ولكنه يمنع نفسه من محبة المال، وسأله القديس ثالثًا عن شعوره إذا أهانه أحد، فأجاب بأنه يحس أنه أهين ولكنه لا يبيت الغيظ في قلبه. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و الكتب الأخرى). وهنا التفت القديس إلي الراهب وأخبره أنه ما يزال تحت الآلام. وأنه في حاجة إلي جهاد أكثر. وبدأ يعظه..
إنها قيود الحس يا صديقي القارئ التي تجعل المرء يفرق بين الرجل والمرأة، المتقدمة في السن والفتاة الشابة، وبين الفتاة "الجميلة" و"غير الجميلة".
أنها قيود الحس أيضًا التي تجعله يفرق بين النقود والحصى... وماذا أذن عن الإهانة والمديح؟
ذهب أحد الرهبان إلي القديس مقاريوس وطلب منه نصيحة، فأمره القديس أن يذهب ويمدح الموتى فذهب ومدحهم فلم يرد عليه منهم أحد، فأمره القديس أن يذهب ويشتد عليهم في القول، ففعل ذلك فلم يرد عليه أحد.
فقال القديس للراهب: وهكذا أنت ما دمت قد مت عن العالم فيجب أن تشبه هؤلاء الموتى، لا تتأثر في شيء، وإنما سيان عندك أن مدحك الناس أو ذموك..

وفي أحدى المرات أحضر أحد الأثرياء هبة مالية إلي الدير لتفرق علي الرهبان، ولكي يقدم رئيس الدير لهذا الثرى عظة عملية، وضع المال جانبا وأمر بدق الناقوس فأجتمع الرهبان، فطلب إليهم الأب الرئيس أن يصنعوا محبة ويأخذوا ما يحتاجونه من هذا المال، ولم يأخذ أحد منهم شيئًا رغم الإلحاح الشديد، تأثر الرجل الثرى جدًا، وطلب أن يترهب..
أن العالم يا آخى الحبيب والجسد أيضًا قد أرسب على إحساساتنا رواسب عديدة كان من نتائجها أن أشياء عالمية كثيرة مادية وجسدية أصبحت تبدو لنا في صورة أجمل من غيرها وأكثر جاذبية وأعمق أثرًا في النفس. وعندما تسموا الروح، وعندما تنطلق إلي حد ما مما يعرقل طريقها من القيود، عند ذلك سيرقى إحساسها جدًا، أو قل ستنطلق من الحس العالمي، وتفهم الأمور بإدراك روحي آخر.
هل إذا طال بك السفر بعيدًا عن أسرتك، ثم قابلتهم بعد هذا الفراق الطويل فعانقوك في محبة وفي شوق زائد، هل وسط تلك المحبة التي سبحت فيها روحك، ستحس أن أباك الرجل يختلف عن أمك المرأة، وأخيك الفتى، وأختك الفتاة. وهل عامل الإنقاذ في الحرائق أو حوادث الغرق يحس أن الجسم الذي يحمله منقذا إياه من الهلاك، هو جسم فتى أو فتاة، أو رجل أو امرأة؟! كلا بل أؤكد لك انه لو أحسن شيئًا من هذا لعرض نفسه للموت هو ومن يعمل علي إنقاذه.
ألا ترى أذن أن الروح تسمو على الحس، وأن هناك أوقات يتعطل فيها الحِس كليًا أو جزئيًا لانهماك الروح فيها هو أعظم..؟
وهكذا أنت في حياتك الروحية عليك أن تتخلص بقدر الإمكان من قيود الحس. وعندئذ ستنظر إلي الأمور بمنظار آخر: سوف لا تحاربك الشهوة، شهوة العين أو شهوة الجسد أو شهوة المال أو شهوة الناس أو تعظم المعيشة. بل تكون كملائكة الله في السماء تنظر إلي كل شيء بتلك {النظرة البسيطة} التي قال عنها السيد المسيح في عظته علي الجبل: {إن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرًا} {مت22:6}.
علي أن هذه الأفكار لم تكن موضوع الحديث بين أبى الراهب وبيني، فقد كنا نتكلم فيما هو أعمق من هذا، في موقف الحس عند تفهم الإلهيات والتأمل فيها: أن الأحساس الجسدي جسدي ومحدود لذلك فهو لا يستطيع أن يفحص الله الروح غير المحدود. ثم أن الحس البشرى عرضه للخطأ، وكثيرًا ما يخطئ في التمييز بين الخطأ والصواب.

لقد رجع التلاميذ الي السيد المسيح فرحين وقالوا له: {حتى الشياطين أيضًا تخضع لنا باسمك} فرد عليهم السيد: {لا تفرحوا بهذا} {لو10: 17، 20} إذ أن إحساسهم كان خاطئًا.
أنظر أيضًا إلي القاتل الذي ثأر لنفسه أو أنتقم لشرفه، ألا يغمره أحساس بالرضى كأنه أتى عملًا جليلًا. أنه حس خاطئ. وأنت كذلك يا أخي المحبوب قد تراودك في صلواتك وخلواتك وتأملاتك أحساسات كثيرة: أمتحنها جيدًا فقد تكون أحساسات بشرية غير سليمة.. وحاول أن تطلق روحك من قيود الحس.
بقى أن أقول لك الإحساس بالعالم وموجوداته يتعطل عند الاستغراق في الإلهيات. كانت حنه تصلي في الهيكل. كانت منسكبة النفس أمام الله فلم تشعر بما يدور حولها حتى أن عالي الكاهن حسبها سَكرَى فقال لها: {إلي متى تسكرين. قومى انزعى خمرك عنك}.{1صم1: 13، 14}.
وهكذا أنت: أن كنت منصرفا بكليتك إلي الصلاة أو التأمل فسوف لا تشعر اطلاقًا بما يدور حولك. قد يتكلم البعض إلي جوارك وقد تقوم ضجة. وقد تتهادى مناظر كثيرة، وأنت لا تدرى عن كل ذلك شيئًا لأنك منهمك في أمور أخرى في عالم الروح. أن حسك معطل نسبيا لأن روحك؟ لا أدري، ولكني أعلم أن القديس يوحنا القصير كانت تمر عليه في تأملاته فترات يتكلم فيها الناس إليه فلا يسمع صوتهم ولا يدرى ماذا يقولون، ويسأله السائل مرة أخرى فيجيبه القديس {ماذا تريد يا ابني؟} ويكرر السائل طلبه ولا يسمعه القديس أيضًا. لأن روحه منشغلة بأشياء أخرى أهم وأعمق وألصق بالسمع والذاكرة. وكانوا يسألونه أحيانًا أسئلة فيجيبهم عنها بتأملات لاهوتية لا علاقة لها بما يسألونه عنه، لأنه لم يسمع ما قالوه

0 التعليقات:

إرسال تعليق