.
الموقع هدفه الارتقاء بالفكر الرافى الحر والتواصل مع الانسان المصرى فى كل مكان ، ومع ذلك فالموقع غير مسئول تماماً من الناحية الأدبية والقانونية عما يُكتب فيه سواء من المحررين أو من أى مصادر أخرى

الأربعاء، سبتمبر 05، 2012

ليلة القبض علي أبونا بولس باسيلي

ليلة القبض علي أبونا بولس باسيلي


فرانسوا باسيلي                                        

                                                   
يمر هذا الشهر واحد وثلاثون عامًا على ليلة القبض على والدي القمص "بولس باسيلي" في الثالث من سبتمبر 1981، وقد رحل والدي عن عالمنا إلى عالم السماء في 2010 ،وأعيد نشر هذا المقال الذي نشر في حياته. ومن الملفت أن الاسلوب الذي اتبعه القمص باسيلي في كتابة مذكراته عن فترة السجن العصيبة أسلوب ساخر به الكثير من المرح، الذي هو علامة مسجلة للشخصية المصرية الأصيلة التي لا تتخلى عن المرح حتى وهي في أحلك اللحظات.


فى الثالث من سبتمبر 1981 أمر الرئيس السادات باعتقال ثلاثة آلاف من رموز مصر السياسية والدينية والثقافية، فكان هذا حدثًا فريدًا في تاريخ مصر، إذ لم يحدث أن قام حاكم مصري منذ الفرعون "مينا" موحد القطرين، مرورًا بكل من تعاقب على حكم مصر من فراعنة ثم من غزاة وطغاة- باعتقال مثل هذا العدد الهائل من رموز مصر في كافة المجالات، ومن كافة مناحي المجتمع المصري في ليلة واحدة. ولعل الحادث الوحيد الأقرب الى هذا هو حادثة "مذبحة المماليك" التى قام فيها "محمد علي" بدعوة أمراء المماليك إلى القلعة حيث أغلق عليهم أبوابها وقتلهم عن بكرة ابيهم فى ليلة واحدة عام 1811.
وكان والدى القمص بولس باسيلى من بين من اعتقلهم السادات فى تلك الليلة الكالحة من تاريخ مصر- وكان في الخامسة والستين من عمره، ولم يشفع له أن ‏سجله‏‏ كان‏ ‏حافلا‏ ‏بالإنجازات‏ ‏الوطنية‏ ‏ومنها‏:‏
انتخب‏ ‏عضوًا‏ ‏بمجلس‏ ‏الشعب‏ ‏عن‏ ‏دائرة‏ ‏شبرا‏ ‏وكان‏ ‏أول‏ ‏كاهن‏ ‏يدخل‏ ‏البرلمان‏ 1971.‏
في‏ 1971 ‏وأثناء‏ ‏حرب‏ ‏الاستنزاف‏ ‏أذاع‏ ‏نداءً‏ ‏إلى‏ ‏قواتنا‏ ‏المسلحة‏ ‏علي‏ ‏خط‏ ‏النار‏ ‏بتكليف‏ ‏خاص‏ ‏من‏ ‏قيادة‏ ‏الجيش‏ ‏العليا‏، ‏ونظرا‏ ‏لإسهاماته‏ ‏الوطنية‏ ‏المتعددة‏ ‏منحه‏ ‏رئيس‏ ‏الجمهورية‏ ‏نوط‏ ‏الامتياز‏ ‏من‏ ‏الطبقة‏ ‏الأولى‏ 1971.
في‏ 1972 ‏عين‏ ‏أمينًا‏ ‏عامًا‏ ‏مساعدًا‏ ‏للدعوة‏ ‏والفكر‏ ‏باللجنة‏ ‏المركزية‏ ‏العليا‏، ‏وفي‏ ‏نفس‏ ‏العام‏ ‏أوفده‏ ‏مجلس‏ ‏الشعب‏ ‏للتفاوض‏ ‏مع‏ ‏رئيس‏ ‏جمهورية‏ ‏إيطاليا‏ ‏لمناصرة‏ ‏القضية‏ ‏الفلسطينية‏ ‏والعربية‏, ‏و‏اختاره‏ ‏مجلس‏ ‏الشعب‏ ‏لتسليم‏ ‏نجمة‏ ‏سيناء‏ ‏لأحد‏ ‏أبطال‏ ‏العبور‏ 1973. ومن انجازاته الاجتماعية حصوله علي نوط الإمتياز من الدولة لخدماته المؤسسية لصالح المكفوفين والمسنين والفقراء.

ذكريات ليلة القبض على أبونا "بولس باسيلي" لن تضيع لأنه سجلها فى عدد من كتبه، وله أكثر من أربعين كتابًا منشورًا في مصر، ومن المفيد أن نستعيد دروس ومواجع وطرائف تلك الليلة الهامة في تاريخ مصر، والتي بلا شك كانت الدافع وراء حادثة اغتيال السادات التي وقعت بعدها بحوالى شهر واحد.
ومن اللافت أن في الإسكندرية وقبل اعتقال والدى بساعتين، تم اعتقال الكاتب الكبير "محمد حسنين هيكل" وكان هو رقم 9 في عمليات تلك الليلة، وكان ذلك فى الثانية والنصف بعد منتصف الليل وبعد ذلك بحوالى ساعة ونصف أي في الرابعة فجرًا وصلت حملة الاعتقال بضباطها وجنودها المسلحين إلى أبو قير التى تبعد حوالى ساعة عن الإسكندرية لاعتقال القمص بولس باسيلي حيث كان يصطاف بها.

ومن مشاهير السياسيين الذين اعتقلوا فى تلك الليلة فؤاد باشا سراج الدين زعيم حزب الوفد، وفتحي رضوان وقيادات الأحزاب الأخرى؛ مثل الدكتور حلمى مراد – حزب العمل- والعديد من اعضاء اللجنة المركزية لحزب التجمع والعديد من النواب المستقلين، ومنهم أحمد فرغلي، ومعظم أعضاء مجلس نقابة المحامين وفى مقدمتهم النقيب عبد العزيز الشوربجي، وعدد من اساتذة الجامعات مثل د. ميلاد حنا و د. كمال الإبراشي والكثير من المثقفين البارزين مثل د. عصمت سيف الدولة، د.صلاح عيسى وحسين عبد الرازق وصابر بسيونى وحمدين صباحى. هذا بالإضافة إلى شخصيات إسلامية شهيرة مثل الأستاذ عمر التلمسانى والشيخ كشك والشيخ المحلاوي. كما لم يخل الأمر من النساء، فاعتقلت قيادات نسائية بينهن د. نوال السعداوى ود. لطيفة الزيات، إلى جانب عدد من القيادات القبطية من رجال الدين ومن مطارنة وكهنة مع قرار السادات بعزل البابا شنودة عن منصبه الديني واحتجازه فى الدير "كمتحفظ عليه"، وتعيين لجنة خماسية لتولى شئون الكنيسة على رأسها الأنبا صمويل والذي توفي في حادث المنصة لإصابته برصاص الرشاشات التي قتلت السادات.

وأنشر هنا تفاصيل حادثة القبض على أبونا بولس باسيلي وذكرياته في السجن، كما نشرها فى كتابه "الأقباط: وطنية وتاريخ". مع التنويه بأن ما يسمى بالفتنة الطائفية فى مصر والتى كانت أحد أسباب الاعتقالات فى تلك الليلة ماتزال تطل برأسها سواء قبل الثورة أو بعدها، دون أدني محاولة لإصلاح الأمور بشكل جزري ودائم.

ذكرياتي بين المرج ووداي النطرون

فى الساعة الرابعة بعد منتصف الليل وكنت وقتها فى مصيف أبو قير (على بعد حوالى ساعة من الاسكندرية) دق على بابي "زائر الفجر" وكنت أظن أن زوار الفجر قد انقضوا من زمان فقمت من نومى وفتحت الباب فإذا بى أمام "جيش معمرم" ضباط وعساكر ومخبرين ورجال مباحث وعلى كل درجة سلم فى منزلي جندي شاكي السلاح، وتقدم ضابطان بثيابهما البيضاء وأشهد أنهما كانا في غاية الأدب والخجل، فهما يعرفاننى من مجلس الشعب، ويفهمان أني لست مجرما أو تاجر مخدرات أو سارقا أو متهما فى جناية قتل، لكنهما مأموران أن يفعلا هذا فاستأذنني الضابطان في أن أرتدى ملابسى وأنزل معهما.. إلى اين؟؟ "والله مانعرفش" هكذا كانت إجابتهما!! وارتديت ملابسي بسرعة وأخذت حقيبة صغيرة فيها بعض ملابسى الخفيفة وذهبت إلى مديرية أمن الإسكندرية، وهناك انتظرت أربع ساعات حتى أشرقت الشمس وأعدوا لى "سيارة جيب" لم يكن فيها كرسيًا واحدًا، وعندما هبطت درجات سلم المديرية تقدم عسكرى منى ووضع فى يدى "الكلابش الحديد" فانتهرته، فتشفع لي الضابطان وحرماني التشبه "ببولس الرسول" الذي وضعت فى يديه السلاسل.

وفي الساعة العاشرة بدأنا مع العسكر رحلتنا فقلت إلى أين ياجماعة؟ ولكن بلا جواب.. ودخلنا مشارف القاهرة تتقدمنى سيارة "بوليس النجدة" وورائى سيارة أمن مركزى، وكأنى الملك فاروق فى زمانه لا تنقصنى سوى المتوسكلات والهتافات!! وكل قليل أسأل رفقائي العسكر "على فين ياجماعة؟! ولا جواب!! وأخيرا قال لى أحدهم بصوت هامس "ياعم ده مش انت بس.. ده ودينا كتير زيك امبارح والنهاردة" وأشار إلى لحيته، ففهمت أن كثيرين من ذوى اللحى الكهنة سبقوني، وعندما وصلنا "المرج" لمحت لافتة كبيرة على الباب: سجن المرج.
وعند الباب لمحنى رجل عملاق، فابتسم ابتسامة شماتة وقال لى بصوته الأجش "أهلا.. هو انت شرفت؟" ووضع ذراعه القوى يتأبط ذراعي الضعيف وتوجه بى نحو غرفة "المأمور" وهناك فتشنى، ولأول مرة أدخل السجن وأفهم التفتيش، حيث خلعوا "جوربى" من حذائى فظننت أنهم "سيمدوني علقة" على رجلي ولكنهم قصدوا مجرد التفتيش لئلا أكون قد أخفيت مطواة أو "قرن غزال" شأن المجرمين، فحكمت على نفسى بالغباوة لأني لم أعرف نظام السجون!

زنزانة رقم 11

وبعد التفتيش والذى منه سمعت صوت العملاق الأجش يصرخ ويقول "يالله زنزانة 11" وسمعت أسماء أساقفة وكهنة كان بعضهم قد سبقني والبعض الآخر لحق بى إلى السجن.. وأشهد أننى طوال دراستى للتاريخ الكنسي لم أعثر على حدث مثل هذا وكانت الكاتبة "صافيناز كاظم" قد نشرت مقالًا فى إحدى الصحف سجلت فيه أن ما حدث للبابا وللأساقفة وللكهنة لم يحدث منذ 1400 سنة.
وهكذا نرى المطارنة والأساقفة والكهنة وكبار الشعب يساقون إلى السجون والزنازين وكأنهم من المجرمين الخطرين!!
رأينا "الأنبا بنيامين" أسقف المنوفية وهو "بلديات" الرئيس وكم حسدناه على أنه "هيئة سياسية"، وهذا الأنبا بيمن أسقف ملوي الراحل، وقد كان دائما فى مقدمة الاصدقاء لرجال الدولة، وهذا "الأنبا بيشوي" أسقف دمياط، وكان أسقفًا مرموقًا لأنه الابن البكر لقداسة البابا، وهذا "الأنبا فام" أسقف طما، ولم يكن قد مضى على رسامته شهور، وهذا "الأنبا ويصا" أسقف البلينا- وهذا "الأنبا أمونيوس" أسقف الأقصر، وهذا "الأنبا بموا" أسقف الأديرة القبلية، الرجل الذي لم يكن له فى السياسة ناقة ولا جمل والذى عقدت حوله الروايات والحكايات، وآخر زبون يشرف الزنازين كان "الأنبا تادرس" أسقف بورسعيد وقد كان فى تلك الفترة فى قبرص، وهناك علم بأمر القبض عليه وحاول أبناؤه إبقاءه فى قبرص أو رحيله إلى أمريكا التى كان يعمل فيها لسنوات، ولكنه أبى الهروب مفضلًا بالأحرى ان يذل مع شعب الله، على أن يكون له تمتع وقتى فى قبرص أو فى أمريكا، وهذه رواية قصها علينا الأب المحبوب القمص بيشوى غبريال راعي لوس أنجيلوس.
ومن الطرائف أيضًا أن أحد العلمانيين الذين كانوا معنا الصحفي "سمير تادرس" وكان قد اختار موقعه فى رأس الزنازين بالقرب من باب السجن ليتخاطب من "شرفة" زنزانته "الزنزانة رقم 1" وتقع على مدخل السجن مع الزنزانة رقم 8، وهي الخاصة بـ"د.ميلاد حنا" المناضل الشجاع الذى أدخلوه معنا على سبيل الخطأ، لأنه أحد رجال السياسة، ولكن نظروا إليه كقبطى فقط، لم يفطنوا الى موقعه السياسى ولو أنهم تنبهوا إلى ذلك بعد حين!! فخسرنا صحبته الجميلة مدة من الزمان!!

برج المراقبة والإذاعة

كان "سمير تادرس" في موقع "برج المراقبة" وهو سجين مخضرم له "سوابق كثيرة" في السجون، ولكننا نحن "مساجين كورك" أي "طاظة" حديثى العهد بالسجون فكان "سمير" كل حين يذيع الأخبار علينا من شرفة زنزانته، ولا يظن القارئ أن الزنزانة لها شرفة، كلا يا أخي فشرفة الزنزانة اقصد بها "النافذة"، ولا تظن أيضًا أن للزنزانة نافذة كنافذة الحجرات في بيوتنا، كلا انها "فتحة" مساحتها 10 × 10 سنتيمتر مربع هى كل متنفس الحجرة، وزنزانتى بهذه المناسبة كانت محظوظة لأن رفيقى فيها كان الزميل "القمص باسليوس سدراك" كاهن المنيا، وهو طويل عملاق فاتفقنا معه على أن يشتم لنا الهواء من "الفتحة" العالية أما أنا فيمكننى أن أتنفس من "عقب الباب"، فكنت أنبطح على الأرض وأتلقى الهواء العليل من ذلك المكان الجميل!!

تعارف مع مأمور السجن

وبمناسبة الطول والقصر فهناك فصل طريف وهو مرور "محمود الجميل" مأمور السجن مع بعض الضباط علينا للتعارف فى أول أسبوع، فوقف كل سجين أمام باب زنزانته لاستقبال هؤلاء فعندما وصل المأمور ورفاقه إلينا قدمت نفسى "القمص بولس باسيلى" قالوا "أهلا وسهلا.. عضو مجلس الشعب؟" قلت نعم. وأما زميلى العملاق فقد قدم نفسه باسمه وبلدته "المنيا" فقال المأمور "يعنى تبع الأنبا بيمن؟" قال له "لا مطران تاني وهو الأنبا "أرسانيوس" فقال المأمور "وده مجاش ليه معاكم؟" فقال أبونا "اصله يا افندم مطراننا قصير وأنا أطول منه مرتين.. وهمه بياخدوا بالطول" فضحك المأمور وأخذ يحكى هذه القصة على كل الضباط للتفكه والترفيه وكان لهذا الجواب مغزى أي مغزى!! (إذ لم يعرف الكثيرون سببًا لاعتقالهم).

معاملة طيبة حقًا

وبالمناسة فلا ننسى أن نسجل كلمة شكر وإشادة بمعاملة العميد "محمود الجميل" مأمور السجن، فقد كان لطيفا معنا يحس إحساسنا ويتفهم ظروفنا وموقفنا، وقد اكتشفنا أخيرًا ان السيدة حرمه وهى طبيبة فاضلة كان لها زميلات طبيبات مسيحيات.
أما طبيب السجن الدكتور مجدي فقد كان لطيفا وكان قد اتفق معى سرا أن يعطينى فرصة أطول من الربع ساعة فى طابور الصباح، بل أكثر من ذلك سمح لى بطابور آخر فى المساء مع بعض المرضى أمثالى، ولكنه على سبيل الخطأ غير المقصود بالطبع كان قد اعطانى "علبة أشرطة اختبار" اقيس بها درجة السكرى عندى ولكنها غير فعالة فكنت أطمئن ولا أتعاطى أدوية السكر إلى أن فاجأنى السكر بغيبوبة خطيرة سقطت على إثرها فى السجن مغشيا على وقد بلغت درجته فى الدم عندي 520 بحسب التقرير الطبى، وامتلأ جسدى بالآسيتون حتى أن نيافة الأنبا بيشوى أسقف دمياط قال لى بعد ذلك "لقد كنت اشتم رائحة الاسينون تتصاعد من فمك!!" وحملت بسرعة الى مستشفى القصر العينى "عنبر 14" الخاص بالمقبوض عليهم –عفوا- المتحفظ عليهم!! وبعد حملى إلى المستشفى علمت أن الزملاء جميعا وقفوا يصلون فى ساحة السجن من أجلى والدموع تطفر من عيونهم ظانين أنهم قد لا يرون وجهى بعد!!
دخلت الإنعاش واستمريت فيه نحو العشرة الأيام أعالج وأصارع الموت وكانت "مباحث أمن الدولة" تسأل عنى تليفونيًا يوميًا وتتوقع الموت لى بين الساعة والأخرى، وتخشى من ذلك لئلا يفسر هذا وخصوصا بالنسبة لى تفسيرات لا ترضاها، سيما وانه قد مات فى السجن منذ أيام الوزير السابق "عبد العظيم أبو العطا" رحمه الله.

ذكرياتي في السجن

لقد تحول السجن إلى كنيسة فالصلوات السبع اليومية تتم فى مواقيتها تماما "وطابور الصباح" للرياضة يقوم به أحد أبنائنا المعتقلين معنا، وكان مدرسًا للألعاب الرياضية، وكان الاخ د. ميلاد حنا بين الحين والحين يقدم لنا استعراضات لعضلاته، وينوب عن المدرس المذكور فى بعض الأوقات!!
وانقلب السجن أيضا إلى كلية إكليريكية فأقوم شخصيا بالوعظ يوميا، ويقدم المتنيح الأنبا بيمن تفسيراته لرسائل بولس الرسائل التى كتبها فى السجن والأنبا بيشوى يدرس الكتاب المقدس فى العهد القديم مع القمص تادرس يعقوب، والأنبا فام بتدريس التسبحة والألحان، والقمص إبراهيم عبده بتعليم الترانيم.
ومن العجيب أننا قمنا بصلوات قداسات ليلة الميلاد وليلة الغطاس وكانت هذه اخر ليلة أشارك فيها وأفارق بعدها "سجن المرج" إلى "القصر العيني"، وهكذا كانت قداسات تاريخية تحدث لأول مرة فى تاريخ الكنيسة ويصلى فيها 8 أساقفة و42 كاهنًا والباقى من العلمانيين اشتركوا كشمامسة، وأما "الشعب" فكانوا المساجين المسيحيين الذين عليهم أحكام وعقوبات مختلفة، فقد استأذنا مأمور السجن في أن نستدعيهم ليعيدوا معنا ليالى الأعياد ويعترفوا بذنوبهم ويتناولوا من الأسرار المقدسة.
وأيضا رسمنا شمامسة في السجن الدكتور نبيل طبيب من سوهاج، والأستاذ عبد المسيح مدرس من بنها نالا درجات شماسية بل وفى السجن أيضا تلقينا أنباء عن "حادث سعيد" للقمص صموئيل ثابت، وآخر للقمص إبراهيم عبده، حيث وضعت زوجة كل منهما ولدا وهما فى السجن، فتلقينا هذه الانباء السعيدة مع صور المولودين السعيدين، وأقمنا لهما حفل "السبوع" وأشعلنا بعض الشموع التى استحضرها لنا الابن الشهم الأستاذ جرجس مندوب اسقفية الخدمات، الذى تعب كثيرا معنا وهون كثيرا علينا!!

الطاولة.. والشطرنج

وكما قال الكتاب المقدس "افعلوا هذا ولاتتركوا تلك" فإلى جانب الصلوات والتأملات المنتظمة، لم ينس الأنبا ويصا "لعبة الشطرنج" المفضلة عنده والتى كان "الشامبيون" فيها مع جميع الذين لعبوها معه فى السجن بلا منازع!! وأما الطاولة فكان أستاذنا بلا منافس القمص لوقا سيداروس، وأشهد أنه أتعبنى كثيرا وحيرنى فى هذه اللعبة التى انتصر فيها كثيرًا عليّ وعلى كثيرين أمثال القمص ابراهيم عبده، والقمص صرابمون عبده، فمع القمص لوقا لا فائدة من الاجتهاد والمحاولات حتى أننى حسبته محترفًا فيها!!

ترقية من السجن إلى الليمان!!

وعندما نقلنا من سجن المرج إلى "ليمان وادى النطرون" - والحقيقة كانت هذه "ترقية" لنا.. فالليمان أعظم مركزًا من السجن - ونحن كنا قد أنهينا حوالى شهر ونصف في المرج وخشيت الحكومة أن يهجم علينا أحد فيقتلنا جميعًا كما حدث فى الهجوم على الأمن المركزى بأسيوط، لذلك نقلونا إلى مركز أعظم حراسة من المرج، وفى ساعة متأخرة من الليل ركبنا "لوري" المساجين المحكم الغلق إلى أين لا نعلم ولامأمور السجن يعلم- كما أقسم لنا- الله وحده هو الذى يعلم.. وأخذت السيارة تنهب بنا الأرض نهبا فى جنح الظلام إلى أن رست عند لافتة كبيرة تقول "ليمان وادى النطرون" ونشهد أن الحال هناك كان أفضل بكثير مما كنا عليه، فبدل "البرش" والأسفلت ارتقينا على أسرة من حديد كل سرير له ثلاثة أدوار، وكان الدور الذى فى وسط السرير فوقه أسقف وتحته أسقف وأنا بين أسقفين، وأحمد الله اننى لم أكن بين نارين، ففى السجن لم يكن هناك فارق بين أسقف أو قس أو علمانى فالحق أن الاساقفة الثمانية كانوا على قدر كبير من التفهم والوعى فهم يقدرون ظروفنا جميعا ويتعاملون معنا الند بالند "ومفيش حد أحسن من حد!!".

كبير الضباط يرحب بنا

وبعد ثلاثة أيام ونحن فى الليمان فوجئنا بكبير ضباط مصلحة السجون جاء يزورنا ويطمئن علينا، فعندما وصل إلى العنبر رآنا نصلى فانتظر فى المكتب إلى أن انتهينا من الصلاة ثم تقدم ليحينا "أهلا.. أهلا.. شرفتوا المكان.. أي خدمة.. احنا كلنا فى خدمتكم.. أي استفسار أو أي شكوى!!"
وهنا سأل احد العلمانيين سيادة اللواء "لو سمحت سعادتك عاوزين نعرف امتى الافراج؟؟"
أجاب المدير "والنبى يا سيد انا نفسى ما أعرفش" ولا أي حد يعرف.. ومع ذلك أنا جيت لقيتكم بتصلوا.. صلوا.. ياتقلبوها زي ماقلبتوها، ياتعدلوها!! وكان هذا الكلام ذا مغزى لأن السادات كان منذ أيام قليلة قد مات (برصاص مغتاليه).

من المآمور.. إلى البواب!!

ومن ذكرياتى التى لن تنسى أننا منذ دخلنا "المرج" ونحن نصلى كل صباح ونسجد 400 سجدة بصوت منتظم يدوى بين رحبات الزنازين ونحن نقول " كيرياليصون كيرياليصون"، فكانت الصرخات تزعزع أعمدة السجن بشهادة مأمور السجن الذى جاءنا يوما يقول "إيه اللى بتقولوه ده؟ ايه يعنى سون سون؟!!" فقلنا له هذه كلمات يونانية معناها "يارب ارحم" وهنا شهد الشهادة التاريخية "أنا باحس إن السجن بيزلزل.. على مهلكم شويه ياجماعة"، والمأمور الواعي يعلم أن صرخة الإنسان المظلوم كالصاروخ تصل إلى علياء السماء، تصرخ من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان- وبعد حادث المنصة جاءنا يتبسط فى الحديث ويقول "والنبى أنا خايف على روحى أنا كمان!! ياجماعة إن كان حد سمع منى كلمة وحشه يقولى!! أبدًا ياسيادة العميد. ونشهد مرة أخرى أن معاملة السيد المأمور وجميع أجهزة السجن كانت معاملة طيبة، فالحراس يقولون لنا "إحنا عمرنا مشفناش زباين زيكم أبدًا" وكانوا كلما يصدر قرار بالإفراج عن اثنين ثلاثة يتألمون لأنهم كانوا يريدوننا محبوسين "تأبيدة" وصدق من قال "مصائب قوم عند قوم فوائد"!.

أربعة كتب في السجن

ورغم أن دخول الأوراق والأقلام إلى المساجين ممنوعة، إلا أنها كانت تدخل إلينا ومراقبو السجن كانوا يتجاوزون عن القوانين ويسمحون لنا بها، ولذلك استطعت بنعمة الله أن أستغل أوقات فراغى فى السجن وأضع النقاط الرئيسية لأربعة مؤلفات قمت بطبعها بمجرد الإفراج عنى، وومارسة نشاطى الروحى والاجتماعى والثقافى (من بين هذه الكتب كتاب "الأقباط وطنية وتاريخ" وكتاب "أنت أخي وأنا أحبك" عن المحبة وعلاقات الود التى يجب توفرها بين أبناء الوطن الواحد والإنسانية جمعاء).
.....................
كانت هذه بعض ذكريات القمص بولس باسيلي عن تلك الفترة المؤلمة فى تاريخ مصر الحديث، وهي فترة ماتزال آثارها المدمرة تنهش روح مصر إلى اليوم، حيث تنفجر بين الحين والحين أحداث يطلق عليها صفة "الفتنة الطائفية" لم تعالج حتى اليوم علاجًا جذريًا يحفظ أمن مصر ووحدتها الداخلية، ويجنبها أخطار الانقسام الداخلى والأطماع الخارجية.. إذ كانت التهمة الموجهة للقمص باسيلى والتي ألقي بموجبها فى السجن دون محاكمة هى الرد على الاتهامات والتهجمات المتلاحقة التى كان يوجهها الشيخ الشعراوى للأقباط ومعتقداتهم فى تلفزيون الدولة، والتى كانت تثير غضب الأقباط وشعورهم بالاضطهاد فى وطنهم. وللأسف استمر هذا الوضع بعد السادات مع زيادة التشدد الدينى للمجتمع المصرى بما يقرب من حالة الهوس الجماعى.

وفى مقدمة ديوانى الشعرى "تهليلات إيزيس" كتبت عن زيارتى لوالدى فى السجن مايلى:
ويدخل الشاعر من باب سجن إلى باب سجن ليصل فى النهاية إلى حجرة صغيرة يرقد فيها والده المسن طريح الفراش، فيرى الرجل الذي علمه الوطنية راقدًا، بينما يجلس بجواره حارس مسلح يطل المسدس من جرابه، وكأن والده الذي طالما دافع عن الوطن ووحدته الوطنية، كأنه لأخطر الخطرين وأشقى الأشقياء، فيتمزق قلب الشاعر حزناً على وطن لا يعرف عدوه من صديقه، يبطش بالحبيب والقريب، فيما هو عاجز أمام العدو والغريب، ويتأبط الشاعر ذراع والده المنهك بعد أن سمح لهما الحارس بالتجوال المحدود تحت عينه المراقبة فيشعر وكأنه يتأبط ذراع وطنه المتعب المتهالك الذي وصل أمر تخبطه وقتها إلى حد وضع كثير من ابنائة المخلصين في السجون.



0 التعليقات:

إرسال تعليق