الكنيسة جعلته مليونيراً لأنه لا يعرف القراءة والكتابة ( بقلم فوزى نجيب )
هذه قصة حدثت فعلاً .. ورواها شهود عيان .
فى غضون عام 1956 كان شاب انحدر من أسرة معدومة ولا يملك شيئاً
إلا الفقر الذى أكل الأشياء والتهم كل آدمية الإنسان .. فتركه للمرض والجهل
والمهانة .. يبلغ من العمر عشرون عاماً ورغم مظاهر العدم التى تحيط بأسرته ..زوجه
أبوه من بنت خاله ذات السبعة عشرة عاماً ، وكان مورده البسيط هو التجول فى الشوارع
بعربة محملة بالخضار ، فقد ورث هذه المهنة من جده التى أورثها لأبوه وهكذا . وذان
يوم ، وحيث العدم يؤول إلى عدم والفقر لا يقف عند حد .. حيث أنه درجات وآخر درجة
يستلمها الموت .. وذات يوم وهو يتجول فى الحوارى الضيقة قد تجرأ واختار ميادين لعل
يجد رواج أكثر . فإذا بسيارات الوري التابعة للمدينة تستولى على عربته وما فيها
وهى كل رأس ماله فى الغد والمستقبل . والقتها فى جوف الكاميون الكبير . وتركوه فى
حالة تستعصى على أكبر الكتاب وصفها . تماسك نفسه ونظر إلى السماء وصرخ من اعماقه
ولا أحد يعرف ماذا قال لالهه – إلا الله وحده – وقال لنفسه ليس لك إلا ترك هذا
العمل مجبراً وليس طوعاً .. وأن تعمل عامل فى مصنع أولا فاعل مبانى تحمل الطوب
والزلط والمونة ، أـو تسحب المراكب الشراعية فى النيل ، لكن هل جسده النحيل
والانيميا التى امتصت دماءه يقدر على القيام بهذه الاعمال . أشار عليه أحد معارفه
أن يذهب إلى الكنيسة ويسأل عن عمل فراش يكنس وينظف .. المرتب ضيئل جداً . ولكن
يكفي أن يأخذ بركة الخدمة .. والله يبارك فى القليل الذى جاء من عرق الجبين فى عمل
شريف ولا سيما بيوت الله .. بعد أن سُدت أمامه كل الأبواب ولم يترك باب إلا وطرقه ..
أشعت الفكرة فى ذهنه وابتهل إلى الله . قربنى إليك يارب . فى
بيتك أخدم ولا أريد غير اللقمة أنا وأولادى والستر و كفاية ..
ذهب إلى الكنيسة القريبة من عشته فى حى البؤساء .. لقد دخل
الكنيسة أكثر من مرة وكان يجلس فى الصفوف الأخيرة ويحاول الابتعاد عن الناس .. لا
يريد أن يضايقهم بملابسه الرثة ورائحته المنفرة .. ولكن هذه المرة يذهب وقلبه ينبض
خوف وأمل .. وسأل الفراش . هل ممكن أقابل أبونا . نظر إليه الفراش يفحصه جملة
وتفصيلاً وأجابه ماذا تريد من أبونا . قال . أبحث عن عمل ولو حتى اكون فراش عندكم
. نظر اليه الفراش ومصمص شفاه وهمس ماأعرفش . روح أبونا فى المكتب .. وانتظر لما
ينهى الناس اللى عنده .. فوقف صاحبنا ( وقد نسينا اسمه ) على باب المكتب حتى فرغت
الناس من مكتب ابونا وخرجت ولم يتبقى أحد ، ولكن صاحبنا ظل واقفاً حتى خرج القس
وراءه وسأله - ماذا تريد يا بنى ؟ أجاب بكسرة صوت أريد أن أعمل انا عندى أسرة والجوع كافر . شغلنى يا ابونا
فراش .. أو أى حاجة .. أغسل .. أنظف ..
أخدم .. .. نظر إليه القس بشفقة وتأثر
..- تعالى يا ابنى مكتب الخدمة الاجتماعية
يشوفوا حالتك ويساعدوك .. – يا أبونا أنا مش عايز مساعدة . أنا عايز أشتغل ..
فسأله القس . انت بتعرف تقرأ وتكتب ؟ - ما أنا لو بعرف أقرأ وأكتب كان أنصلح حالى
شوية .. أبويا ماكنش يقدر يصرف على مدارس – يا ابنى تعالى مكتب الخدمة يساعدوك ..
وأخرج ورقة من فئة الخمسون قرشاً ووضعها فى يده وانصرف وقال : عايزين ناس تقرأ
وتكتب .. . وقف الشاب خارج الكنيسة وأسند ظهره على جدراها وأخذ يبكى ..
كانت بعض أعقاب السجار تحت قدميه ، وأفاق على شخص يجمع الاعقاب
من تحت قدميه ثم نظر اليه بدهشة – لماذا تبكى يا أخى .. أمات قريب لك ؟ - لا أنى أبحث عن عمل ولا أحد يريد أن يقبلنى
لأنى لا أعرف القراءة والكتابة .. ضحك جامع الاعقاب وقال عندى لك عمل خاص حر .
أفضل ما تشتغل عند حد .. حر نفسك .. قال – ما هو ؟ - تجمع اعقاب السجائر - أنا أجمع أعقاب السجائر ده انا أشتغل شحات
أحسن
خلاص يا عم لا تزعل . ابكى وموت من الجوع انت وأولادك . والشغل
مش عيب طالما بتكسب .
هدأ صاحبنا وراجع نفسه واعاد الفكرة مرة أخرى وقارنها بالوضع
الذى آل اليه : وعايزنى أعمل إيه
- أنا اعلمك واوريك يومين وبعد كده حتعرف كل حاجة انت من اليمين
وأنا من الشمال .. وأعطاه كيس . وأى عقب تجده ضعه فى الكيس وأخر النهار حتروح تبيع
ما جمعناه – قال فى نفسه عمل كريه ( ولكن الحاجة
تبرر الافعال ) وليس هناك اختيار .. وفعلا قام فى اليوم الاول بجمع ما
يوازى كيلو ، وعرفه الرجل المحل الذى يبيع فيه اعقاب السجائر ، وقبض ما يوزاى
عشرون قرشاً .. كان فى ذات الوقت يحص العامل على اثنى عشر قرشاً فى عشرة ساعات عمل
.. ويوم بعد يوم اتقن صاحبنا العمل وخبرة الجوع جعلته يحتاط للغد فكون مبلغاً
لا بأس به حتى وصل أن اشترى محل ( مستودع ) يشترى من جامعى الاعقاب ثم يقوم ببيعها
للمصنع .. الذى يعيد غربلتهم وتحويلهم إلى سجائر مرة أخرى .. وكان أصحاب الشركة
التى يتعامل معهم يهود الجنسية وحدث عدوان 56 ، وجن جنون عبد الناصر رئيس مصر فى
ذات الوقت وأصدر قرار بطرد اليهود واعطاهم مهلة محددة لمغادرة البلاد ، وكان
صاحبنا على علاقة ودية ومقرب لصاحب الشركة فعرض عليه عرض. سوف أترك كل شئ وسوف
أغادر مصر وأنت أفضل الناس أن أسلم لك المصنع . إذا رجعت يكون أمانة معك ، وإن لم
أرجع الف مبروك . وأى مبلغ معاك سوف أقبله . و تم العقد والاتفاق والشروط ، وأصبح
صاحبنا صاحب مصنع للسجائر .. ..... وفى أقل من خمسة أعوام أصبح لصاحبنا فيلا يملكها
وسيارة فاخرة يركبها ،
وحساب لا بأس به فى البنوك ، وأولاد فى مدارس خاصة ، وتغيرت أحواله
وسلوكياته وأفكاره وأصحابه ولكنه لم
ينسى يوماً ماضيه ، يذهب يوماً فى الاسبوع إلى حى البؤساء ويوزع عليهم الطعام
بنفسه ويعطى كل بيت ما قسم له مبلغ من النقود ، وذاع صيته ونجح وأصبح من رجال
الاعمال ، ولكن أصابته عقدة فقد حاول أن يتعلم القراءة والكتابة فلم يفلح ولا يعرف
السبب ، وكأنه خشى أن يتعلم القراءة والكتابة فتكون فال سئ يضيع منه كل شئ .
ويوماً ما أحن أن يزور الكنيسة والمكان الذى بدأ فيه رحلته
للمليونية ، وأحياناً كلنا نحن للماضى وندور حول الاماكن التى حفرت بصماتها فى
أعماقنا .. ووقفت العربة الفارهة أمام الكنيسة ونزل منها صاحبنا بالبدلة اللميع
والنظارة الريبان على عينيه ومظاهر الثراء على وجهه وما ان وضع قدميه على أول عتبة
من سلالم الكنيسة وإذا به يجد من يأخذه بالاحضان . أهلاً وسهلاً بالبك نورت
الكنيسة .. اتفضل اتفضل .. يا واد يا جرجس هات حاجة ساقعة للبيه .. وعرف صاحبنا
أنه نفس القس الذى تقابل معه منذ ثمانية أعوام .. حكى له القس أن عنده كم من
الفقراء ونحتاج لترميم واعادة بعض المبانى ، ودون أن يفكر صاحبنا أخذ دفتر الشيكات
من جيبه .. كم تحتاج يا أبونا واعطاه الشيك وقال له اكتب يا ابونا المبلغ الذى
تحتاجه الكنيسة وانا أختم ، وكتب أبونا مبلغاً وكتب التاريخ والاسم ولم يبقى إلا
توقيع صاحبنا .. واندهش أبونا عندما سأله عن ختامة لكى يبصم فقال له . حضرتك
ماتعرفش تمضى .. رد - ما أنا لو أعرف القراءة والكتابة كنت زمانى فراش فى كنيستك
..
0 التعليقات:
إرسال تعليق